حقيقة علمية ومُسلّمة شرعية
في البداية أوضح أن بياني لهذه الحقيقة العلمية اللغوية الشرعية ليس معناه أنني أؤيد الدولة الدينية أو المغالين في الدين أو المتاجرين في الدين واستغلال الجهل والعاطفة الدينية عند العوام لدفعهم للفتن الطائفية والمذهبية والعرقية، أو أنني أوافق على ما يحدث باسم الدين في الصومال والعراق وأفغانستان واليمن وباكستان وغيرها من الدول العربية والإسلامية الذي يستغل جهل الناس بالدين لأحداث الفتن الطائفية والمذهبية فرفض ذلك مسلمة شرعية. فالإسلام لا يعرف الدولة الدينية التي يتسلط فيها رجال الدين على مقدرات الحياة وتوجيه التفكير والانقياد الأعمى للفتوى الدينية، الدولة في الإسلام دولة مدنية بمرجعية إسلامية في الحلال والحرام الوارد في الآيات قطعية الدلالة والأحاديث النبوية الصحيحة، وعلماء الدين أحد المرجعيات العلمية مثلهم مثل علماء الاقتصاد والتربية، والصحة، والزراعة، والتعليم والهندسة وغيرهم أي أنهم يستفتون في الحلال والحرام وفي مجال تخصصهم فقط من دون هيمنة دينية أو إقصاء لباقي الخبراء والعلماء، هذا ما يجب أن أبينه حتى لا تختلط الأوراق.
- كتب احد الكتاب المقال الأول بعنوان تعريف العَلمانية، كتب يقول: (فالعَلماني هو الشخص الذي يهتم بهذه الحياة الدنيوية ويتحرك بمقتضى معيشته الدنيوية ولا يفكر في شيء آخر ولا يعمل من أجل هدف آخر ولا يملك حسابا في حياته خارج هذه الدائرة) وقال: هذا هو معنى العَلمانية بشكل دقيق ومرجعه في ذلك كتاب التراث والعَلمانية، عبدالكريم سروش، دار الناشر العربي (ب ت) (ص 98) (انتهى) مع إعادة ترتيب المصدر ترتيبا علميا.
وأنا أعيد عليكم صياغة التعريف السابق لنعلم التدليس العلمي والمغالطات العلمية الخفية في التعريف أقول: (فالعَلماني (بفتح العين) هو الشخص الذي يهتم بهذه الحياة الدنيوية (فقط)، ويتحرك بمقتضى معيشته الدنيوية (المادية) ولا يفكر في شيء آخر (كالدين والآخرة والأخلاق الدينية) ولا يعمل من آجل هدف آخر (كالحياة بعد الموت والبعث والحساب)، ولا يملك حسابا في حياته خارج هذه الدائرة (مثل البعث والجنة والنار والحساب والميزان وكل هذه المفاهيم الدينية لما بعد دائرة الحياة الدنيا).
ما أضفناه بين الأقواس هو المسكوت عنه في التعريف.
فالذي يهتم بالحياة الدنيا فقط لا يؤمن بالحياة بعد الموت والذي يتحرك بمقتضى معيشته الدنيوية ولا يفكر في شيء آخر دنيوي مادي حيواني يسلك سلوكا يقول به (ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر).
والذي لا يملك حسابا في حياته خارج دائرة الحياة الدنيا، إذا سرق ونهب ونصب وتحايل على القانون وأفلت من العقاب فقد فاز لذلك من يضيع هذه المكاسب خوفا من الله ومن حسابه إنسان خارج دائرة العلمانية ولذلك عرف العَلمانيون (بفتح العين) الغربيون العلماني بأنه خلاف الديني وهو الدنيوي وهو عين ما جاء في تعريف الكاتب نقلا عن التراث والعلمانية (المرجع السابق).
يقول الكاتب: (تارة تقرأ (العلمانية) بفتح العين (عَلمانية) فمادتها علم فهي مأخوذة من عالَم، أي المتظهر بمعالم الدنيا (أما القراءة الأخرى لهذه المفردة بكسر العين عِلمانية يقرأ بالكسر (للعين) تعطي معنى العلمي (المرجع السابق، ص 94 كما نقل الكاتب).
وإذا رجعنا إلى المراجع العلمية الأجنبية نجد العلمانية (secularism) هي أصل العلمانية وهي لفظة لا تمت إلى العلم بصلة فالعلمية (Scientism) ذات العلاقة بالعلم (scientific) ولذلك فالترجمة الصحيحة للعلمانية (secularism) هي اللادينية الدنيوية، من هنا كان النطق العلمي للعَلمانية (بفتح العين) وليس بكسرها لأنها لا علاقة لها بالعلم من قريب أو بعيد.
فالعَلمانية (بفتح العين) تعني أننا خلقنا من دون هدف ومن دون خالق عليم وكما قال تعالى على لسان هؤلاء: " وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ" (الجاثية/24) وإذا أردنا تفسيرا علميا لهذه الآية فسنجده التفسير نفسه الذي نقله الكاتب عن كتاب التراث والعلمانية (ص 98).
لذلك نحن نجزم على علم أن العَلمانية (بفتح العين) هي الإلحاد بعينه، ومحاولات التوفيق بين العَلمانية والإسلام هي محاولة الخلط بين الحق والباطل، والإيمان والكفر والدنيوية وعقيدة البعث والحساب.
المسلم يهتم بالدنيا مع اهتمامه بالآخرة ويعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، ومن زرع فيها حصد في الدنيا والآخرة وان العبد مسئول أمام الله عن عمره الدنيوي فيم أفناه، وبدنه الدنيوي فيم أبلاه، وعن ماله في الدنيا من أين اكتسبه وفيم أنفقه وكما قال تعالى: " فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ{7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ{8}" (الزلزلة/ 7-8).
ومن دون هذا الحساب الدقيق تصبح الحياة الدنيا عبثية، ونظامها الدقيق عبثيا، ويصبح تفصيل القانون لصالح المتنفذين والمستفيدين ذكاء وفطنة، ولا داعي لكل ما ينادي به العَلمانيون (بفتح العين) من إصلاح وتنظيم.
والبقاء في الحياة الدنيا للأقوى بالمدفع والمنصب والناب، ولا مكان فيها للفقراء والضعفاء وهنا تلتقي العَلمانية (بفتح العين) مع الدارونية والبقاء للأقوى، وهنا تغيب المودة والرحمة ويفسح المجال للشيوعية المادية التي يتحول فيها الإنسان إلى سن في ترس الحياة الشيوعية كما يفسح المجال للرأسمالية المتغولة التي لا رحمة فيها للشركات الصغيرة والبلدان الصغيرة والزراعات الصغيرة وبذلك تتحول الحياة إلى غابة من دون نظام بيئي سليم يفترس فيها الكل الكل في عراك عبثي مدمر.
الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء بقدر ولغاية مقدرة فقال تعالى: " إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" ولم يعرف الإسلام فصلا بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، ولا بين الدين والسياسة أو العلم والدين، ولم يعرف الإسلام رجال الدين بل عاب الإسلام على اليهود والنصارى أتباعهم فتاوى رجال دينهم أتباعا أعمى وجعل في هذا الإتباع تعطيلا للعقل كما قال الأستاذ عباس العقاد رحمه الله في بحثه المتميز التفكير فريضة إسلامية فقال: (وقد بدأ الإسلام بالتحذير الشامل من هذا الفساد فأسقط الكهانة وأبطل سلطان رجال الدين على الضمائر ونفى عنهم القدرة على التحريم والتحليل والإدانة والغفران ثم نبه إلى سيئاتهم وعاقبة الذين استسلموا لخديعتهم وكثير منهم خادعون "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " (التوبة/31)).
وحرص القرآن على أن يعم القول من لهم سلطان ديني كالأحبار ومن ليس لهم هذا السلطان ولكنهم يستمدون من السمعة الدينية نصيبا من السلطان لا يقل عن نصيب الأحبار (التفكير فريضة إسلامية، عباس محمود العقاد، دار القلم (ب ن) (ط1) (ص 30) (ب ت)).
وكما سقطت الشيوعية، وسقطت الدارونية وتزلزلت مؤخرا الرأسمالية، فسوف تسقط العَلمانية (بفتح العين) الإلحادية النابذة للدين من الحياة، والمنكرة للحياة بعد الحياة الدنيا والاهتمام بالحياة الدنيا فقط، والتحرك وفق المطالب المادية الحيوانية فقط، وإهمال كل حساب لما هو خارج الحياة الدنيا.
علينا بذل الجهود لعودة شباب المسلمين إلى حقيقة الإسلام بعيدا عن سطوة رجال الدين وتقديسهم وتقديس توجهاتهم، وعلينا تعمير الكون بنواميس الله في خلقه ونبذ الكهنوتية، والشعوذة، والسحر والدجل باسم الدين.
وعلينا أن نعلم أبناءنا حب الله وحب رسوله وحب الوطن، وتقبل الآخر وان نعيش سويا في سفينة واحدة بفقه السفينة الواحدة النابذ أهلها للفساد والفتن الطائفية والمذهبية وان نعلم أن قيمة الفرد فيما يحسن وان الإيمان يقتضي العمل الصالح، والعمل الصالح لا يقبل إلا بالإيمان وهذا ما يهدم العَلمانية (بفتح العين) من جذورها الغربية في ديارنا العربية والإسلامية