خطبة بعنوان: من دروس الاساءة(بخس الحقوق)
الحمد لله الذي جعل رسوله أحب إلى أصحابه من أموالهم
وأولادهم وأمهاتهم ومن الماء البارد على الظمأ كما قال على بن أبي طالب ،
وقد عبر عروة بن مسعود
الثقفي عن هذه المحبة المشوبة بالتعظيم في قوله للمشركين: " أي قومي والله
لقد وفدت على الملوك فما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد
محمداً ، والله ما
تنخم نخامة إلا وقعت في كف أحد منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم بأمر
ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوءه ، وإذا تكلموا خفضوا
أصواتهم عنده ، وما يحدون
النظر إليه تعظيما له " .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، لا يضيع أجر من أحسن ، الحسنة عنده بعشر أمثالها ويزيد ، والسيئة بمثلها ويغفر ، وهو يحب
من عباده أن يتخلقوا بأخلاقه .
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، بشر حسان ثابت بالجنة يوم سمعه يرد على من يهجوه فيقول : هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في
ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما فداء
هجوت مباركا برا رحيما أمين الله شيمته الوفاء
فان أبي ووالدتي
وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
أما بعد : فمن خلال
حركة الفيلم المسىء لنبينا عرفنا أن بعض مجموعات شعوب الأرض المختلفة
تشارك في العدوان علينا، وفي التخطيط
المضادّ لمصالحنا ، وأدركنا أن ردودنا يجب أن تكون ردودا مدروسة بصورة
دقيقة جداً ، لأنّ القضية ليست عرضاً لعضلات القوة ، ولكنها قضية سلامة
ومصلحة الإسلام
والمسلمين.
وحتى يطيب خاطرنا يجب أن نعرف أن هناك
مردودا ربانيا لكل إساءة يتعرض لها الرسول ، فالله لا يخذل نبيه أبدا ،
أليس الله بكاف عبده ، إنا كفيناك
المستهزئين ، فسيكفيكهم الله ، والله يعصمك من الناس .
روى
البخاري في صحيحه عن أنس: أن رجلا نصرانيا أسلم وكان يكتب للنبي فعاد
نصرانيا وصار يدعي أنه هو
الذي أدخل الدين على رسول الله فأماته الله عز وجل ، فدفنوه فأصبح وقد
لفظته الأرض فقال أهله : فعل محمد وأصحابه نبشوه فأخرجوه ، فحفروا له أعمق
ما يستطيعون فدفنوه فأصبح
وقد لفظته الأرض ، فتركوه .
هناك مردود رباني لكل
إساءة يتعرض لها الرسول وليس بلازم أن يتمثل المردود الرباني في معاقبة
من يسيئ لرسوله ولكنه يمكن أن يكون
بتجلى رحمته سبحانه على هذا المسيئ حيث يفتح الله قلبه أو بلده للإسلام ،
قال ابن تيمية في كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول : " وحدثنا أهل
الثغور في وزماننا أن
بعض حصون الأعداء كانت تصعب عليهم الشهور المتتابعة بل السنة لمنعتها
وحصانتها فإذا سمعوا أهل الحصن يقعون في رسول الله علموا أن الفتح قادم
وما هو إلا يوم أو أيام
معدودة ويوقع الله بهم . حتى قال بعضهم: " كنا نستبشر بذلك ونحن نكره منهم
لما يكون من النصر عليهم والانتصار لرسول الله .
لمحمد
إذا رب يحميه خصوصا إن
نكص المسلمون عن حمايته ، ألم يقل الله تعالى " إلا تنصروه فقد نصره الله "
، فدعونا إذا نرصد عيبا دفع بعض الغربيين إلى الإساءة لرسولنا لنستكشف
إن كان هذا
العيب فينا ، فطوبى لمن اشتغل بعيويه .
أيها الإخوة
المؤمنون : كل واحد منا يسلم أن من أساءوا إلى الرسول قد بخسوه حقه
وتعاملوا معه من منطلق سوء الظن ومن
خلال العواطف والانفعالات المبنية على أفكار لم تؤخذ من محمد ولا من مجموع
أتباعه ، وقد تستند هذه الإساءات إلى مواقف فردية لأفراد من المسلمين يتم
تعميمها وإلصاقها ظلما
وزورا بالإسلام ورسوله في إطار من التجاهل المتعمد للمقررات الإسلامية
ولنمط المواقف التي تصدر عن مجموع الأمة الإسلامية .
هذا
عيب خطير يؤدي إلى تجاوزات
خطيرة أقلها تجاوز الفيلم المسيئ، فدعونا نتساءل هل هذا العيب نفسه موجود
في أوساطنا ، هل تبخس وأنت مسلم إخوانك حقوقهم ، هل تتعامل معهم من منطلق
سوء الظن ، ومن خلال
العواطف والانفعالات ، هل تحدد طبيعة علاقتك بهم وفقا لما يبلغك عنهم دون
تثبت ، ولو أخطأوا هل تحكم عليهم من خلال إساءة ارتكبوها أو موقف سقطوا في
براثنه أو من خلال
الحساسيات الهامشية البسيطة أو الاختلاف في الرأي بينك وبينهم .
الجواب عن هذه الأسئلة يشعرني بضآلة نفسي وبالحسرة عليها وعلى من حولي ، فمن مظاهر التطرف في
الواقع الإسلامي : سوء الظن بالآخرين، والنظر إليهم من خلال منظار أسود يخفي حسناتهم ويضخم سيئاتهم.
والتعاليم
الإسلامية تحذر أشد التحذير من سوء الظن
بالناس ، فالله تعالى يقول: {يا أيّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً مِن
الظنِّ إنَّ بعْض الظنِّ إثمٌ} والنبي يقول: " إيّاكم والظن، فإن الظن
أكذب الحديث "
والمسلم مطالب بستر عيب أخيه ليستره الله في الدنيا والآخرة ، وإذا وجد
حسنة أظهرها وأذاعها، ولا تنسيه سيئة رآها في مسلم حسناته الأخرى ، ما يعلم
منها وما لا يعلم ، وقد
كان بعض السلف يقول: إنّي لألتمس لأخي المعاذير من عذر إلى سبعين ، ثم
أقول: لعلّ له عذرا آخر لا أعرفه!.
أخي الكريم : كم
من علاقة دامت بينك وبين إنسان ما
لسنوات طويلة ثم انقطعت هذه العلاقة ، بالله عليك سل أي إنسان علاقته
مقطوعة بقريب أو صديق أو زميل في العمل ، سله عن سبب هذه القطيعة ، سيذكر
لك موقفا أو موقفين ، علاقات
بنيت في سنوات تهدم في لحظات ، بالله عليكم أهذا منطق ، ما أرخص العلاقات
الإنسانية عندنا ؟.
إن التعامل مع المحيط الإنساني
يستلزم أن لا يكون الحكم على الأمور
والأحداث أو حتى الأشخاص من خلال ساعات راحلة زائلة بل يجب أن يكون حكماً
عقلانياً بعيداً عن العواطف والانفعالات!! فالاتزان والتوازن في الحكم على
الغير هو سمة العلاقة
الدائمة المستمرة فمن اخطأ اليوم قد تكون له ظروفه النفسية التي قد يصححها
غداً .
هذا هو الميزان الذي يعاملك الله تعالى على
أساسه ، إنه يزنك بحسناتك وسيئاتك
فإذا رجحت حسناتك تغاضى عن السيئات " والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه
فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم
خالدون " بل إنه
سبحانه يتغاضي عن صغائرك وهفواتك طالما لم تتجرأ على الكبائر ، أليس هو
القائل : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم وندخلكم
مدخلاً كريماً ) بل يجعل
الحسنات مذهبة للسيئات ، قال تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) وفي
الحديث : [ وأتبع السيئة الحسنة تمحها ] وكذلك جاء في الأحاديث الصحيحة أن
من كفارات السيئات والخطايا
إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، والصلوات الخمس ،
والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان وقيامه ، وقيام ليلة القدر ، وصيام
عاشوراء وغيرها من
الطاعات ، يا أخي الله عز وجل يمحو جبالا من السيئات بإحسان واحد ونحن نمحو
جبالا من حسنات الآخرين بإساءة واحدة صدرت عنهم ، سقت بغي الكلب ، فشكر
لها الرب ، وغفر الذنب ،
قتل رجل مئة نفس ، ثم تاب إلى الله عز وجل ، فدخل الجنة على عجل .
فهلا
تعاملنا مع بعضنا بهذا المنطق الذي ترجمه سعيد بن المسيب في قوله " ليس من
شريف ولا
عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه ،
فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله" وقال الذهبي " الكبير من أئمة
العلم إذا كثر
صوابه ، وعلم تحريه للحق ، واتسع علمه ، وظهر ذكاؤه ، وعرف صلاحه وورعه
تغفر له زلاته ، ولا نضلله وننسى محاسنه ". وقال عبد الله بن المبارك : "
إذا غلبت محاسن الرجل
على مساوئه لم تذكر المساوئ " فالعبرة بأغلب حال أخيك معك و قد قيل : " كفى
بالمرء نبلا أن تعد معايبه" ومن الذي ما أساء قط؟ ومن له الحسنى فقط؟ ومن
هو الذي ما
سقط؟ وأين هو الذي ما غلط؟ يا كثير الأخطاء ،أنسيت أن كل ابن آدم خطاء .
اخرج
من أقبية ذاتك ومن خصوصياتك وحساباتك الضيقة إلى الأفق السامي الوضيئ الذي
مثله
خير خلق الله محمد فهو لم ينسي حسنة لأحد حتى لخصومه الذين أصروا على
شركهم ، والتاريخ يسجل قوله في أسرى بدر " لو كان المطعم بن عدى حيا ثم
كلمني في هؤلاء لوهبتهم له
" لم ينس موقف إحسان للرجل رغم كفره وموته .
وكأنه
يضع أيدينا على المنهج الصحيح في إقامة العلاقات ، إنه يقول لك يجب أن
تكون محددا مع كل شخص فتذكر ما
تحبه فيه إن ذكرت ما تكرهه منه ، ومن هنا قال الرسول : " لا يفرك مؤمن
مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر " وقال الله تعالى : ﴿وآخرون اعترفوا
بذنوبهم خلطوا
عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ان الله غفور رحيم ﴾) فمن
المسلمين من يجتمع فيه أمران : أمر من الخير فيحب بسببه ويمدح عليه .. وأمر
من الشر فيذم بسببه ويبغض
لأجله ، والخير يمحو الشر .
هذا هو منهج محمد الذي
لم يكتف بالدعوة إليه بل تمثله واقعا عمليا فعندما أخطأ حاطب بن أبي بلتعة
خطأ جسيما تمثل في إخبار
المشركين بتجهز المسلمين للخروج إليهم قال عمر بن الخطاب دعني أضرب عنقه يا
رسول الله ، فتذكر لحاطب موقفه يوم بدر فقال دعه يا عمر ، فقد شهد بدرا
ولعل الله قد اطلع على
أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، ولما شرب رجل من المسلمين
الخمر فجيئ به فجلد ثم عاد فشرب فجيئ به فجلد ، ثم عاد فشرب فجيئ به فجلد
قال رجل من الصحابة : لعنه الله
ما أكثر ما يؤتى به ، فرد عليه الرسول قائلا : لا تلعنه فو الله ما علمت
إلا أنه يحب الله ورسوله ، والغامدية زنت فلما جاءت أمر الرسول برجمها
فرجمها الناس حتى أصاب خالد
بن الوليد شيئ من دمها فلعنها فقال له الرسول : لا تلعنها فو الذي نفسي
بيده لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم .
من
هنا تعلم الصحابة هذا الدرس
البليغ درس عدم الوقوف عند أخطاء الآخرين ، وتذكر حسناتهم ومزاياهم ، فقد
دخل ابن أخت السيدة عائشة عليها فوجد حسان بن ثابت عندها فقال لها : لم
تجلسين هذا الأعمى عندك وقد
قال ما قال ؟ يقصد أن حسان قد شارك في حديث الإفك ، فقالت دعه يا ابن أختي ،
إنه كان ينافح عن رسول الله .
وروي أن رجلا جاء
إلى عمر رضي الله عنه يشكو خلق زوجته
فوقف على باب عمر ينتظر خروجه فسمع امرأة عمر تستطيل عليه بلسانها وعمر
ساكت لا يرد عليها فانصرف الرجل راجعا وقال إن كان هذا حال عمر مع شدته
وصلابته وهو أمير المؤمنين
فكيف حالي ، فخرج عمر فرآه موليا عن بابه فناداه وقال : ما حاجتك يا رجل ؟
فقال : يا أمير المؤمنين جئت أشكو إليك سوء خلق امرأتي واستطالتها علي
فسمعت زوجتك كذلك فرجعت وقلت
إذا كان حال أمير المؤمنين مع زوجته فكيف حالي ، فقال عمر : إنها طباخة
لطعامي خبازة لخبزي غسالة لثيابي مرضعة لولدي ويسكن قلبي بها عن الحرام
فأنا أحتملها لذلك فقال الرجل
وكذلك زوجتي قال عمر : فاحتملها يا أخي فإنما هي مدة يسيرة .
ولما
دخل ضرار الكناني على معاوية قال له صف لي عليا - وأنتم تعرفون ما وقع بين
على ومعاوية - فقال
ضرار : أو تعفيني يا أمير المؤمنين ؟ قال : لا أعفيك قال : أما إذ لا بد
فإنه كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا ويحكم عدلا يتفجر العلم من
جوانبه وتنطق الحكمة من
نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته ويحب المساكين ، لا
يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ... فوكفت دموع معاوية على
لحيته ما يملكها وجعل
ينشفها بكمه ويقول : كذا كان أبو الحسن رحمه الله .
أيها الإخوة الأحباب هذا درس من دروس الاساءة ومنحة من منحها التي تجعل من المسلم نحلة تضع نفسها على موطن
الرحيق ولا تجعل همها من الشوك الزعيق ، ترى لو أننا التزمنا بمقتضيات هذا الدرس كيف تكون شبكة علاقاتنا ؟.
الخطبة الثانية :
أيها
الإخوة المؤمنون
: عن علي قال " أشد الأعمال ثلاثة : إعطاء الحق من نفسك ، وذكر الله على كل
الحال ، ومواساة الأخ في المال " وكان ابن عياش يقع في عمر بن ذر ويشتمه ،
فلقيه عمر بن ذر ،
فقال : يا هذا لا تفرط في شتمنا ، وأبق للصلح موضعاً ، فإنا لا نكافئ من
عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه .
دعونا
نصون ودنا ونحفظ أخوتنا فالحر من راعى
ود لحظة أو انتمى لمن أفاده لفظة ، لا تنكروا محاسن الآخرين وفضائلهم
فتكونوا كهؤلاء الغربيين الذين ينكرون فضائل محمد على الإنسانية ، وما قدمه
أتباعه للحضارة الغربية
.
علموهم أن يتثبتوا من كل خبر يبلغهم عنكم أو عن
نبيكم بالتثبت من الأخبار التي تبلغكم عن إخوانكم فالمؤمن وقاف حتى يتبين
كما يقول الحسن البصري ، لن يتعلم
الآخرون أن يردوا غيبتنا إن لم نلتزم بهذا الخلق في أوساطنا ، فضعوا نصب
أعينكم قوله : " من ذب عن عرض أخيه بالغيب كان حقا على الله أن يعتقه من
النار" .
أفهموهم القاعدة التي قررها جمهور السلف
قاعدة أن كلام الأقران يطوى ولا يروى ، فإن كلام الأقران الحامل عليه الحسد
والتنافس ، علموهم أن التائب تبدل سيئاته
حسنات ، لان ما فات مات ، والصالحات تمحو الخطيئات ، وللتوبة أسرار ،
ولأصحابها أخبار ، فالتائب لا يتصيد المعائب ، ولا يطلب المثالب ، لأنه ذاق
مرارة ما تقدم ، فهو دائماً
يتندم ، وهو يفتح باب المعاذير لمن وقع في المحاذير ، لا يتبجح على أهل
المعاصي ، ولا يحاسب الناس على زلاتهم ، ولا يأخذهم بعثراتهم ، بل يدعو
للمذنبين ، ويحب التائبين ،
ويبغض المتكبرين.
أيها الإخوة الأحباب أختم بما ختمت
به الخطبة الأولى فأقول هذا درس من دروس مسألة الرسوم ومنحة من منحها إن
التزمت به كنت كالنحلة تضع نفسها
على موطن الرحيق ولا تجعل همها من الشوك الزعيق ، ترى لو أننا التزمنا
بمقتضيات هذا الدرس كيف تكون شبكة علاقاتنا ؟.