خطبة بعنوان ( بداية الإجازة الصيفية ) للشيخ سامي بن خالد الحمود حفظه الله تعالى
(الخطبة الأولى)
أما بعد .. كان الوالدان في ترقب وحذر، وتخوف وأمل .. ينتظران على أحر من الجمر ، ما تؤول إليه نتيجة الأبناء في الامتحانات ، وقد أُبرمت الوعود، وزفت البشائر، بالهدايا القيمة والرحلات الممتعة ، إذا كانت النتائج مرضية مشرفة.
وأعلنت النتائج ، وبدأت الإجازة الصيفية الطويلة ، تلك الإجازة التي ينتظرها ملايين الطلاب والطالبات من أبنائنا وبناتنا ؛ ليستريحوا من عناء السهر والمذاكرة ، والذهاب يومياً إلى المدارس والجامعات والمعاهد .
نعم .. لقد بدأت الإجازة ، والله أعلم بما قضى الله فيها من الأقدار والأخبار .. الله أعلم كم فيها من رحمة تنتظر السعداء !! وكم فيها من بلية ومصيبة تنتظر الأشقياء !! نسأل الله العظيم بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين أن يجعل ما وهب لنا من زيادة العمر زيادة لنا في كل خير ، وأن يعصمنا فيها من كل بلاء وشر .
وإذا كنا نتحدث عن الإجازة فإننا نتحدث عن جزء من أعمارنا ، ورصيد من أوقاتنا .
إن الوقت هو الحياة .. من عمره فإنما يعمر حياته ، ومن قتلته فإنما يقتل نفسه .
ولأهمية الوقت ، فإن الله سبحانه وتعالى أقسم به في أوائل سور كثيرة .
(وَالْعَصْرِ} ، {وَالْفَجْرِ } ، {وَالضُّحَى} ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ، وغيرها من الآيات.
وقال سبحانه: ((فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ((
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : أي إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها ، وقطعت علائقها ، فانصب إلى العبادة ، وقم إليها نشيطا فارغ البال ، وأخلص لربك النية والرغبة.اهـ
أيها المؤمنون .. الوقت هو ثمرة العمر طيبة كانت أو خبيثة .. وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله : ( السنة شجرة، والشهور فروعها، و الأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل(
ولعلنا نتساءل: متى يعرف المفرط قدر الوقت وقيمة العمل؟
ذكر الله تعالى في القرآن العظيم موقفين يندم فيهما الإنسان على ضياع الوقت والحياة ، ويعلم أنه كان مغبوناً خاسراً في حياته .
الموقف الأول : ساعة الاحتضار .. حينما ينزل الموت بالعبد المفرط (فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) .. إنه يريد تأخير الأجل ولو قليلاً من الوقت (إلى أجل قريب) .. إنه يريد فرصة من الوقت ليتدارك حياته بالعمل الصالح .
الموقف الثاني : في يوم القيامة .. حين يقول المفرط في جنب الله حين يرى العذاب (لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) .. (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين)
وإذا أردنا أيها الأحبة أن ندرك أهمية الوقت وخطورته فلنتأمل بعض خصائصه .
فمن خصائص الوقت:
1- أن ما مضى منه لا يعود ولا يمكن تعويضه . كما قيل : الوقت كالسيف ، إن لم تقطعه قطعك .
يقول الحسن : ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم ، أنا خلق جديد ، وعلى عملك شهيد ، فتزود مني لأني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة .
2- سرعة مروره وانقضائه ، فالوقت يمر مر السحاب ولاسيما عند الصحيح المعافى من الأمراض والهموم ، كما قيل :
فقصارهن مع الهموم طويلةٌ وطوالهن مع السرور قصار
ومن العجيب ، ما جاء في السنة من أن الوقت يتقارب ويمضي سريعاً في آخر الزمان .
فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كالضرمة بالنار" رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع .
3- أنه محدود بأجل مسمى ، وهذا الأجل مجهول بالنسبة للإنسان ، فأنت لا تدري متى تنقطع أنفاسك ويحل أجلك ، (فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)
4- أنه أنفس ما يملكه الإنسان ، وليس كما قيل : الوقت من ذهب ، بل هو أغلى من الذهب لأنه لا يمكن تعويضه
.
5- أنه على الرغم من نفاسته وأهميته فإن أكثر الناس مغبونون فيه ، يقول الناطق بالوحي صلى الله عليه وسلم : {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ} رواه البخاري وإبن عباس
قال ابن بطال: (كثير من الناس) أي أن الذي يوفق لذلك قليل.اهـ
وإنما يعرف قدر هاتين النعمتين من حُرِمها .
هل تأملت أخي الشاب ذلك الشاب الذي تعرض لحادث سيارة فأصبح مشلولاً مقعداً طوال حياته لتعلم كم أنت مغبون في صحتك ..
وهل تأملت آخرين ممن يعيشون خلف القضبان وبين الجدران في السجون لتعلم كم أنت مغبون في فراغك .
ومن العجيب أنك قد ترى بعض المرضى والمشلولين والمسجونين يستثمرون أوقاتهم بصورة صحيحة وجيدة
أما الذين أصح الله أجسادهم ، وعافاهم من الأمراض والمشغلات المقلقة ، فإنهم يتسابقون في تضييع الأوقات وقتلها .
6- أن هذا الوقت هو محل الحساب يوم القيامة ، وكل إنسان محاسب على أوقات عمره كلها لأنها وعاء الأعمال والأقوال ، كما قال تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)
وقد روى الترمذي وغيره بسند صحيح عن أبي برزة الأسلمي عن النبي قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه ، وعن علمه فيم فعل فيه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه) .
وفي رواية (وعن شبابه فيما أبلاه) كما في حديث ابن مسعود عند الترمذي ومعاذ عند البيهقي وغيره .
إذا عرفنا خصائص الوقت وشرفه وأهميته ، فإننا لا بد من استغلال الوقت بالأعمال النافعة في الدنيا والآخرة .
أيها الإخوة ..
إنه لمن المؤسف أن نرى هذا الضياع الذي يعيشه الكثير من الناس في الإجازة .
بل إن كثيراً من المشاكل والسلوكيات السيئة بل والجرائم تزداد في أوقات الإجازة ..
أقول ماتسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فأستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
(الخطبة الثانية)
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور .. والصلاة والسلام على البشير النذير ، والسراج المنير ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المصير .
عباد الله .. الإجازة ليست كما يظن بعض الناس مضيعةً للأوقات ، وليست فرصةً للمعاصي والمنكرات ، فما دمنا نأكلُ من رزق الله ، ونمشي على أرضه ، ونستظلُ بسمائه ، ونستنشقُ من هواءه ، فلا ينبغي لنا أن نعصيه طرفة عين .
ذكر ابن قدامة في كتاب التوابين عن يوسف بن الحسين قال: كنت مع " ذي النون المصري " على شاطئ غدير ، فنظرت إلى عقرب عظيمة على شط الغدير واقفة ، فإذا بضفدع قد خرجت من الغدير ، فركبتها العقرب فجعلت الضفدع تسبح حتى عبرت الغدير .
قال ذو النون : إن لهذه العقرب لشأناً، فامض بنا نتبعُها .
فجعلنا نتبع أثرها ، فإذا رجل نائم سكران ..!! وإذا حية سامة قد جاءت فصعدت من ناحية سرته إلى صدره وهي تطلب أذنه ، فتمكنت العقرب من الحية السامة فضربتها ، فانقلبت الحية وهربت!! ورجعت العقرب إلى الغدير ، فجاءت الضفدع فركبتها فعبرت .
فحرّك ذو النون الرجل النائم ففتح عينيه ، فقال : يا فتى ، انظر مما نجّـاك الله !! هذه العقرب أرسلها الله إليك ، فقتلت هذه الحية التي أرادتك بسوء !! ثم أنشد ذو النون يقول:
يا غافلا ً والجليل يحرسهُ من كل سوء يدب في الظلمِ
كيف تنام العيون عن ملكٍ تأتيـه منـه فـوائـد النعمِ
فنهض الشاب وقال : " إلهي ومولاي : هذا فعلك بمن عصاك !! فكيف رفقك ورحمتك بمن يطيعك ..؟!! "
ثم ولى ذاهبا ً ، فقلت : إلى أين ؟؟ فقال : إلى بيوت الله وإلى طاعة الله !! .
فالله الله أيها الأحبة في أن نشكر الله تعالى على نعمه العظيمة التي لا تحصى .. وأن نسخرها في ما يحبه ويرضاه .
وإذا أردنا أن تستفيد من الإجازة ، ونكون فيها من الفائزين ، فلا بد أن نحقق أمرين :
1- أن نستشعر قيمة الوقت، وأن له شأناً عند الله . وأن هذا الوقت هو رأس مالنا؛ فإن ضيعناه ضاعت حياتنا ، وإن حفظناه كنا من السابقين المفلحين
.
2- لا بد من التخطيط والتنظيم والبعد عن الفوضى في استغلال الوقت .
بالتخطيط والتنظيم يمكن أن نحول الإجازة إلى فترة إيجابية في حياتنا نجني منها الأجر والفائدة وبناء النفس من جهة ، ونجد فيها المتعة والترويح عن النفس من جهة أخرى
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النعمة المهداة ، والرحمة المسداة ، محمد بن عبد الله ، فقد أمركم الله بذلك فقال : (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً)