خطبة بعنوان (منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في تربية الأبناء والعطف عليهم والعدل بينهم)
(الخطبة الأولى)
أما بعد :
أيها الناس : اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه .
إخوة الإيمان ، لعلنا نقف بكم اليوم على مواقف من رسولنا الكريم وسلفنا الصالح ، في تربية أبنائهم وشبابهم ، أولئك الأبناء الذين مافتئوا بعد أن كبروا- بل وهم صغار- أن ظهرت ثمار صلاحهم في فتح الفتوحات وتدريس العلم وتدوينه وتسطير المواقف العظيمة في سجلات التاريخ ((والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتْناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين )).
السلف رضوان الله عليهم وعلى رأسهم رسولنا (عليه الصلاة والسلام )هم قدوتنا في كل شيء ، ومنها التربية ، وقد ثبت يقينا أنهم قد نجحوا في تربية أبنائهم ، وهذا ما رأيناه في أصحاب رسول الله من الفتيان من عجائب وغرائب يقف لها التاريخ شاهدا على صدقها ، شباب ذللوا سبل المعالي ، عبد الله ابن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأسامة بن زيد كلهم من تربية مدرسة محمد ،
روى مسلم عن أنس(رضي الله عنه) قال : ((ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله ))،
وعن أنس (رضي الله عنه )قال : ((كان رسول الله (عليه الصلاة والسلام ) من أفكه الناس مع الصبي ))، وقد حث (عليه الصلاة والسلام )على العدل، حين قال (عليه الصلاة والسلام ): ((إن الله يحب أن تعدلوا بين أولادكم كما يحب أن تعدلوا بين أنفسكم )). رواه الدارقطني .
ولقد اهتم الإسلام بأن يكون الأب في موضع القدوة من ابنه ، فالتميز الخلقي المتمثل بالقدوة الصالحة هو من أكبر العوامل في التأثير على القلوب والنفوس ، وما أجدر الجيل الإسلامي اليوم ، برجاله ، ونسائه ، وكباره ، وصغاره ، أن يفهموا هذه الحقيقة ، وأن يعطوا لغيرهم القدوة الصالحة ليكونوا أقمار هداية وشموس إصلاح ، ودعاة خير وحق ، وأسباب نشر وامتداد لرسالة الإسلام الخالدة ، ومن هنا كان حرص النبي (عليه الصلاة والسلام )على أن يظهر المربي أمام من يقوم على تربيته بمظهر القدوة الصالحة في كل شيء حتى يتطبع الولد منذ نشأته على الخير ، ويتخلق منذ نعومة أظفاره على الصفات الفاضلة النبيلة .
روى أبو داود والبيهقي عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال ((دعتني أمي يوما ورسول الله (عليه الصلاة والسلام )قاعد في بيتنا فقالت : يا عبد الله تعال حتى أعطيك ، فقال لها رسول الله :ما أردت أن تعطيه ؟ قالت : أردت أن أعطيه تمرا ، فقال : أما أنكِ لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة )) وعنه عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وغيره : ((من قال لصبي تعال هاك – أي خذ- ثم لم يعطه ، فهي كذبة))، تربية على الصدق وعدم الكذب للطفل منذ صغره ،
وروى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، أن أباه أتى به إلى رسول الله (عليه الصلاة والسلام )فقال : ((إني نحلت ابني هذا- أي أعطيته – غلاما كان لي ، فقال رسول الله (عليه الصلاة والسلام ): أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال : لا ، فقال رسول الله (عليه الصلاة والسلام ): فأرجعه ))،
وفي رواية ، فقال : (( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ؛ فرجع أبي فرد تلك الصدقة )) ، وفي رواية أخرى قال رسول الله (عليه الصلاة والسلام ): ((يا بشير ألك ولد سوى هذا ، فقال :نعم ، أكلهم وهبت له مثل ذلك ، فقال : لا ، قال : فلا تشهدنَّ إذن، إني لا أشهد على جور ، أو قال : أشَهِْد على هذا غيري ، ثم قال : (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال :بلى ، قال: فلا إذن).
هذا هديه (عليه الصلاة والسلام )في غرس العدل في قلوب الآباء من حوله ، لأن الظلم دائما وخصوصا من الأب سبب للخصومات ، ووجود الحقد مما يكون ثمرته ضياع الأبناء ولو استحضرت في ذهنك صور الخصومات والحقد بين الإخوة لرأيته ثمرة لعدم العدل
ولقد نبه (عليه الصلاة والسلام )عن طريق صنيعه بضرورة الرحمة بالأبناء وعدم القسوة وذلك فيما روي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : ((قبّل رسول الله (عليه الصلاة والسلام )الحسن والحسين ابني علي رضي الله عنهم ، وعنده الأقرع بن حابس التميمي فقال الأقرع : إن لي عشرة من الأولاد ما قبلت منهم أحدا قط ، فنظر إليه رسول الله (عليه الصلاة والسلام )ثم قال : من لا يرحم لا يرحم ))
وفي الصحيحين كذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت : ((جاء أعرابي إلى رسول الله (عليه الصلاة والسلام )فقال : إنكم تقبلون الصبيان ، وما نقبلهم ، فقال رسول الله : أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك )) ومتى نزعت- إخوة الإيمان- الرحمة من قلب المرء أبا أو أما أو قريبا فهل تنفع التربية مع الولد ؟ أو التلميذ ؟ هل يتقبل منه موعظة أو نصحا ؟ وما نصح أحد من راحم بمن ضل أو أوشك على الضلال .
لقد كان (عليه الصلاة والسلام )مثلا مجسدا للرحمة بالأبناء ، روى الترمذي وغيره عن عبدا لله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال : رأيت رسول الله وهو يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وعليهما قميصان أحمران ، يمشيان ويعثران ، فنزل النبي (عليه الصلاة والسلام )، فحملهما ووضعها بين يديه ثم قال إنما أموالكم وأولادكم فتنة ، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما .
وروى النسائي والحاكم : (( بينما كان رسول الله (عليه الصلاة والسلام ) يصلي بالناس ، إذ جاءه الحسين ، فركب عنقه وهو ساجد فأطال السجود بالناس ، حتى ظنوا أنه قد حدث أمر ، فلما قضى صلاته ، قالوا : قد أطلت السجود يا رسول الله ، حتى ظننا أنه حدث أمر ، فقال : إن ابني قد ارتحلني – أي صعد على ظهري ، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته ))، وجاء في الإصابة أنه كان يداعب الحسن والحسين رضي الله عنهما فيمشي على يديه وركبتيه ويتعلقان به من الجانبين فيمشي بهما ، ويقول : (( نعم الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما ))
وفي الصحيحين عن أنس (رضي الله عنه )أن النبي (عليه الصلاة والسلام )قال : (( إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها ، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي – أي أختصر – مما أعلم من وَجْد أمِه من بكائه )) وكان (عليه الصلاة والسلام )كما ورد في الصحيحين إذا مر على الصبيان يسلم عليهم ويحادثهم .
هذه نماذج من رحمة النبي (عليه الصلاة والسلام )بالأولاد والصبيان ، كان عليه الصلاة والسلام يفعلهما ولم تشغله مشاغله الكثيرة ، وأعباء الدعوة وهمومها عن كل ذلك ، فأي رحمة أعظم من هذه الرحمة فعلها عليه الصلاة والسلام وهو يعلم أثرها في تربية الولد ومحبته ، ولكنه مع هذه الرحمة العظيمة بهم فقد أمر بتأديب الولد وحضه على حسن الخلق ،
فقد روى الترمذي أن رسول لله صلى لله عليه وسلم قال: لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع أي حينما تؤدبه في وقت ما أفضل من تصدقك بصاع في ذلك الوقت ، ويقول (عليه الصلاة والسلام ): (( من ولد له ولد فليحسن اسمه وأدبه )) إذا فتأديب الأطفال مطلوب ، وحضهم على فعل الخير مرغوب ، وإبعادهم عن مواطن الشر هو الحصن له من الضياع والفساد ،
روى الإمام أحمد في مسنده عن عم أبي رافع بن عمرو يقول عن نفسه : (( كنت وأنا غلام أرمي نخلا للأنصار فأتي النبي (عليه الصلاة والسلام )فقيل له إن ها هنا غلاما فأتي بي إلى النبي (عليه الصلاة والسلام )فقال : يا غلام لِمَ ترم النخل ؟ قال : قلت آكل ، قال : لا ترمي النخل، وكل مما يسقط في أسافلها ثم مسح رأسي ، وقال اللهم أشبع بطنه ))،
إذا فوقوع الأطفال الصغار في الخطأ غير المقصود وارد ، ولذلك فيجب علاجه وعدم إهماله ، ومع الأسف أننا نرى كثير من الآباء والمربين اليوم إما أن يتشددوا على الطفل عند وقوعه في الخطأ فيخرجهم عن التربية الشرعية ، أو يهملون الصغير إذا أخطأ ولو كان خطؤه مؤذيا ، وهذا فيه إفساد لأخلاق الصبي فإن التأديب للصغير ولو كان بالضرب غير المبرح مؤثر على الصغير ولا ينساه فقد قال (عليه الصلاة والسلام ): (( اضربوهم عليها وهم أبناء عشر ))، أي على من تخلف عن الصلاة ،
ويقول (عليه الصلاة والسلام )فيما رواه أحمد في مسنده : ((وأنفق على عيالك من طولك – أي من قدرتك – ولا ترفع عصاك أدبا وأخُِفْهُم في الله )) وروى البخاري في الأدب عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله (عليه الصلاة والسلام أمر بتعليق السوط في البيت) ،
وروى الحاكم أن رسول الله (عليه الصلاة والسلام )خرج في عمرة وكان معه أبو بكر وبعض من الصحابة وكان أبو بكر قد كلف غلاما له بزاملة رسول الله (عليه الصلاة والسلام )فنزل رسول الله (عليه الصلاة والسلام )في مكان في الطريق ومعه هؤلاء الصحابة وقد تأخر الغلام ثم حينما ظهر إذا به لوحده ، فقام إليه أبو بكر وكان محرما ، فقال له : أين البعير ؟ فقال : أضلني يا أبا بكر ، فأخذ أبو بكر يضرب الغلام والرسول ينظر ، ويقول : (( انظروا إلى هذا المُحْرم يؤدب غلامه وكان ينظر مبتسما)) وهذا منه إقرار .
إخوة الإيمان: وإذا نظرنا إلى هدي النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام في تربيتهم للبنات ، نجد أنهم أشد اهتماما في إعدادهن كأمهات مربيات صالحات ، في تعويدهن على الحياء ، وعدم مخالطة الرجال وحرصهن على العلم والذكر ، ويكفي أن نقلب السير لما كانت عليه الحال لنساء المدينة وقت النبي والصحابة الكرام من بعده ، حتى نتعرف مدى ما كن عليه من تقوى وورع وحياء وتربية للأولاد بل وللرجال ،
انظروا مثلا إلى سيرة فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله (عليه الصلاة والسلام )حتى تروا تربيته عليه الصلاة والسلام لها ، وكذلك أسماء بنت أبي بكر، وأمامة بنت أبي العاص، وغيرهن من الصحابيات رضوان الله عليهن ، نقول هذا لمن أهمل بناته أو أساء معاملتهن حتى ينتبهوا لأعراضهن من خلالهن .
وهي مسئولية على عاتق كل أب أو أم أو مربٍّ أو مربية ، بل هو تكليف رباني حمّله الله للمسؤول عن الأبناء والبنات ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ))
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ماتسمعون وأستغفرالله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فأستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
(الخطبة الثانية)
الحمد لله على إحسانه والشكر على توفيقه وإمتنانه وأشهد أن محمدآ عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه وصلاة وسلامآ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد : أيها الإخوة المسلمون : اتقوا الله تعالى ، واعلموا أن هذه النماذج السابقة من تربية النبي (عليه الصلاة والسلام) وصحابته الكرام للأولاد إنما تبين المسؤولية العظمى التي تقع على الآباء والمربين في التربية والتعليم لأبنائهم وبناتهم ،
إن المتطلع إلى مجتمعنا اليوم ليرى أحوالا لأولادنا ما كنا نعرفها قبلُ ، ولا توافق ما قرأناه من نماذج رائعة
إن كل هذه الأحوال والمظاهر التي نراها لدى أبنائنا وبناتنا مع الأسف في هذا المجتمع المسلم ، ولا يستطيع أحد إنكارها لا ألقي باللائمة وحدها على الأب والمربي في اتجاه كثير من أبنائنا وبناتنا إلى تلك المظاهر ،
ولكنني أوجه اللوم أيضا إلى بعض وسائل الإعلام ، كالقنوات الفضائية ، تلك القنوات التي نوفرها في بيوتنا وبأموالنا ثم تشترك معنا في تربية أولادنا.
إن نظرة واحدة لبرامج هذه القنوات ، وما يعرض فيها من تضييع للأخلاق ، وتعليم للمساوئ ، وتعويد على أخلاق وعادات الغير ، كل ذلك كافٍ حتى نعلم مدى الخطر الكبير الذي يؤثر على الجميع
، لقد أصبح الإعلام وبتلك القنوات اليوم يشترك مع الآباء والمربين في التربية وهكذا ضاع توجيه الأب والأم ونصح المدرس المربي ، بل ويضيع مع ذلك الدين بالجلسات بالساعات الطويلة أمام هذه المقتنيات الإعلامية والقنوات الفضائية.
إن المقلب لهموم الشباب والأولاد اليوم ليجدها بعيدة كل البعد عن هموم صحابة رسول الله (عليه الصلاة والسلام )وأبنائهم ، كما رأينا تربيتهم فهم شبابنا، إما في ملبسه وتَزيُنه، أو في الكرة ونواديها التي أصبحت تأخذ كل أوقاتهم أو غير ذلك من الملهيات
، إن المسؤولية العظيمة تقع عليك أيها الأب في كل ذلك ولو قلبت في أحوالك وأمورك لوجدت أنك مقصر كثيرا تجاه بيتك وأسرتك ، ، ثم إن من الخطأ ترى بعض الآباء يهملون تربية أولادهم ومحاسبتهم على الخطر ولو عرفوه، كل ذلك بدافع عدم تخويف الولد وتعقيد نفسيته ،
ثم يستفحل الأمر بعد ذلك ولات حين مندم ، أليس من الخطأ إخوة الإيمان أن نرى أبناءنا وبناتنا يصاحبون كل من هب ودب ، ولا ننبههم إلى ذلك .
إن كثيرا من المشاكل التي يقع فيها أولادنا يجد المتأمل فيها أن صديق السوء أو صديقة السوء خلفها ، إن الأب إذا لم يقم على مراقبة أهليه وأولاده وتربيتهم تربية صالحة فمن الذي يقوم عليها ؟ هل يقوم عليها أباعد الناس ؟، أو يترك هؤلاء الأولاد والأغصان الغضة تعصف بها رياح الأفكار المضللة والاتجاهات المنحرفة والأخلاق الهدامة فينشأ من هؤلاء جيل فاسد لا يرعى لله ولا للناس حرمة ، ولا حقوقا ؟
إن بعض الناس يقول معتذرا أنا لا أستطيع تربية أولادي إنهم كبروا أو تمردوا علي ولو سلمنا له بهذا ، ولو سلمنا له جدلا أو حقيقة واقعة ثم فكرنا لوجدنا أنك أنت أيها الأب والمربي السبب في سقوط هيبتك في نفوسهم ،
لأنك أضعت أمر الله فيهم في أول أمرهم ، فتركتهم يتصرفون كما يشاءون لا تسألهم عن أحوالهم ولا تأنس بالاجتماع إليهم ، لا تجتمع معهم على طعام أو غير ذلك ، فتقع الجفوة بينك وبين أولادك فينفروا منك وتنفر منهم ،
فكيف تطمع بعد ذلك أن ينقادوا لك أو يأخذوا بتوجيهاتك بل إلى من يلجئوا حينما يقعون في مشكلة وقعوا فيها أو مصيبة جروا إليها ، لو أن الآباء اتقوا الله في أول أمرهم وقاموا بتربية أبنائهم وبناتهم على الوجه الذي يرضي الله ، لأصلح الله لك أمر الدنيا والآخرة ،
يقول تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)