اليوم.. أمة الإسلام على صعيد واحد
الحج عرفة.. هكذا صدع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - محدّداً صحيح الحج، ركناً من أركانه مع الإحرام والسعي وطواف الإفاضة.. فمَن أدرك عرفة في أي وقت قبل غروب الشمس ووقف فيها فقد صحّت حجته ومَن لم يفعل فلا حجة له.
يوم واحد مشهود تجتمع فيه أمة الإسلام من أنحاء المعمورة على صعيد واحد، لا تمايز ولا فروق في فرض الوفاء بهذا الشرط، كما لا تمايز ولا فرق في أداء هذه الشعيرة في لباس الإحرام أو في جوهر الضراعة للخالق وحده - عزّ وجلّ - في أن ينقيهم من الذنوب والخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس.
ملايين بمختلف الأعراف والأجناس والثقافات واللغات بمختلف الجنس من ذكر أو أنثى، من مختلف الأعمار شاب راشد إلى شيخ عجوز، جميعهم في عبادة الواحد الأحد، لا غني أو فقير، لا كبير مقام أو صغير مقام، حالة انصهار جماعي يذوب كله تبتلاً لرب العالمين، بعيداً عن مشاغل الحياة، وزركشاتها ومنغصاتها في توق إلى أن يعينهم على طاعته ويوفقهم إلى سعادة الدنيا ونعيم الآخرة.
الوقوف في عرفة مشهد روحي آسر، حشد بشري هائل في قلب واحد، لهدف واحد تترجمه دعوة: ''لبيك اللهم لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك'' منذ اللحظة التي يعقد فيها المسلم النية للحج، وإلى أن يطوف طواف الوداع، لكن التلبية في يوم الوقفة في عرفة تصعد من أفواه الجموع صادرة عن وجدان مترع بالإيمان وبفيض أنوار قدسية المكان وسمو معانيه الروحية، تسترجع فيه النفوس زمن النبوة والصحابة، تسترجع صدى دعواتهم، صلواتهم، وقع خطاهم، حركاتهم وسكناتهم وهم في صحبة أكرم الخلق - صلى الله عليه وسلم - وهو عليه السلام في صحبة أفاضل الناس - رضوان الله عليهم - فقد آمنوا به وامتثلوا لأوامره ونواهيه في سُنَّة طاهرة زكية لخير البرية جمعاء.
مشهد يوم الوقفة في عرفة، لا مثيل ولا شبيه له في اكتظاظ البشر واكتظاظ المشاعر الورعة التقية.. الروح الإنسانية تسفر عن تجليات صفائها الروحي ببهائه الناصع فإذا كل حاج أو حاجة يكاد من نشوة الإيمان لا يحس بنفسه جسداً إنما طيفاً محلّقاً في أجواز فضاء القداسة ذائباً في خشوع الدعوات بأعمق وأصدق الامتنان على أن بلَّغه الله المرام في القيام بفريضة الحج ووقوفه هذا اليوم العظيم بعرفة.
الملايين من أمة الإسلام، التي تقف اليوم كان قد وقف مثلها آخرون في كل عام، منذ بدء الرسالة ومع ذلك فلا سبيل لمشاهد أو قارئ أو سامع أن يذوق حلاوة ما يحسه مَن يقف على هذا الصعيد الطاهر.. وفي هذا الموقف المهيب إلا أن يكون ممن أنعم الله عليه ببلوغها.. زمن موقوت في مساحة محدودة من الأرض.. في امتثال لأداء الشعيرة لا تفريط ولا استثناء، حكمة دين حنيف وسنة نبوية مطهرة.
ويوم الوقفة في عرفة، أبداً هو في التاسع من ذي الحجة.. علامة زمنية روحية مفروضة، لا يتم الركن الخامس من الإسلام إلا بها.. علامة تحمل دلالة مكثفة ندرك - كمسلمين - رمزيتها، لكننا لا نملك الاسترسال في البحث عن جوهر السبب سوى استلهام الحكمة مما فيها والاتباع لما أمر به نبي الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم - وقام بفعله، كما قال: ''خذوا عني مناسككم'' والمسلمون ساروا على هدي ما فعل وقال وبه يمتثلون.. فـاللهم أسبغ على كل مَن وفقته - سبحانك - إلى الوقوف في هذا الموقف العظيم مرضاتك وغفرانك.. وأن تجعل حجه مبروراً وسعيه مشكوراً.. وتشملنا معهم برحمتك وعفوك يا أرحم الراحمين.