خطبة جمعة بعنوان : خلق الوفاء
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
خلق الوفاء
الخطبة الأولى
أمَّا بعد: فاتَّقوا الله -عبادَ الله- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعُروةِ الوُثقى.
أيّها المسلمون، تكمُل النفسُ البشريّة بعبوديَّتها لله
وحُسن معاملتها مع الخلق، وشَرَع الله لعباده الأخذَ بمعالي الأمور والنهيَ
عن سافلها.
والوفاءُ من الأخلاقِ الكريمةِ ومِن صفاتِ النفوسِ
الشريفة، وهو من أُسُس بناءِ المجتمع واستقامةِ الحياة، وهو: الاعتراف
بالفضلِ وردّ الجميل لمن أسدَى إليك معروفًا أو مدَّ إليك يدًا.
وأعظَمُ عهدٍ يجِب الوفاءُ به الوفاءُ مع الله بأن
يُعبَد وحدَه لا يُشرَك به شيئًا، كما قال - سبحانه -: (وَأَوْفُوا
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة: 40]، وهو مِن شِيَم الرجال،
وأمارةٌ على سموِّ النّفس وحُسنِ الخُلق.
وأوفى الناسِ رسُل الله، موسَى - عليه السلام - عرفَ
حقَّ أخيه هارونَ فسَأل ربَّه أن يجعَله شريكًا معه في الرّسالة:
(وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ
أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه: 29-32].
ونبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان وفيًّا مع من
نصَره لإبلاغِ رسالة ربِّه، مَنَع المُطعِمُ بنُ عديّ المشركين أن يُؤذُوا
رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قبلَ الهِجرة، فحفِظَ له - عليه الصلاة
والسلام - إحسانَه، وقال في أُسارى بدر: ((لو كان المُطعِم بن عديٍّ حيًّا
ثم كلَّمني في هؤلاء النَّتْنى لتركتُهم له))[رواه البخاري].
وكان - صلى الله عليه وسلم - وفيًّا مع صحابته، أبو بكرٍ
رضى الله عنه - أفضلُ الصحابة نصر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بماله
ونفسِه، وكان أكثرَ الصحابة صُحبَة له، فقال: ((لو كنتُ مُتَّخِذًا من
أمّتي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلاً، ولكن أخِي وصاحبي))[متفق عليه].
واعتزَّ الإسلامُ بإسلامِ عمرَ بنِ الخطاب رضى الله عنه
-، وأبلى في المشاهِدِ بلاءً حسنًا، فقال عنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم
-: ((عمر في الجنّة))[رواه أحمد].
ولمّا بذل عثمانُ رضى الله عنه - لهذا الدينِ مِن ماله
ما بَذل وجهَّز جيشَ العُسرة بألفِ دينارٍ ألقاها في حِجر النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال له: ((ما ضرَّ عثمان ما عمِل بعد اليوم)[رواه الترمذيّ].
وعليٌّ رضى الله عنه - أوّلُ من أسلم من الصّبيان، فقال
النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيه يومَ خيبر: ((لأُعطينَّ الرايةَ غدًا
رجلاً يحبّ اللهَ ورسولَه ويحبُّه اللهُ ورسولُه))، فأعطاها عليًّا. [رواه
البخاري].
وصلَّى على شهداء أُحُدٍ بعد ثمان سنين من استشهادهم كالمُودِّع لهم. [متفق عليه].
وصلَّى على قبر جاريةٍ سوداءَ كانت تقُمُّ المسجد.
ولمّا ناصرَ الأنصارُ المهاجِرين دَعا لهم النبيُّ - صلى
الله عليه وسلم - ولذراريهم فقال: ((اللّهمّ اغفر للأنصارِ ولأبناءِ
الأنصار ولأبناءِ أبناءِ الأنصار))[رواه مسلم].
ولم يُسدِ أحدٌ من الصحابة للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -
معروفًا إلا ويُكافِئُه عليه، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((ما لأحدٍ
عندنا يدٌ إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكرٍ، فإن له عندنا يدًا يُكافِئُه
الله به يوم القيامة))[رواه الترمذي].
وأمر - عليه الصلاة والسلام - بحفظ الوُدِّ لصحابته
كلِّهم بعد مماته، فقال: ((لا تسُبُّوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أنفق
أحدُكم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما أدركَ مُدَّ أحدهم ولا نصيفَه))[رواه مسلم].
ووفاؤه امتدَّ إلى أمّته وذلك في الموقِف العظيم، فقال:
((لكلِّ نبيٍّ دعوةٌ مُستجابة، فتَعَجَّل كلُّ نبيٍّ دعوتَه، وإني اختبأتُ
دعوتي شفاعةً لأمّتي يومَ القيامة، فهي نائلةٌ إن شاءَ الله من ماتَ مِن
أمّتي لا يُشرك بالله شيئًا))[رواه مسلم].
وعلى هذا الخُلقِ العظيم من الوفاء سارَ الصحابة - رضي
الله عنهم -، فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما قُبِض قال أبو بكر
للصحابة: من كان له عِدَةٌ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو دَينٌ
فليأتِني، قال جابرٌ: فأتيتُه فقلتُ: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال لي: ((لو قد جاء مالُ البحرَين أعطيتُك هكذا وهكذا وهكذا))، فلم يجِئ
مالُ البحرَيْن حتى قُبِض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فحثَا لي
أبو بكر من مال البحرَيْن لما جاءه حثيةً فعدَدتُها، فإذا هي خمسمائة،
فقال لي: خُذ مثلَيْها. [متفق عليه].
وأنفذَ أبو بكر رضى الله عنه - جيشَ أسامة بنِ زيد رضى
الله عنه - على شدّة حاجة أبي بكر للجيش بعد وفاة النبي - صلى الله عليه
وسلم -، وقال: لا أترك أمرًا رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -
يصنعه إلا صنعتُه.
والصحابةُ - رضي الله عنهم - حفِظوا لأبي بكرٍ مكانته
وسبقَه للإسلام، فاتفقوا على بيعته خليفةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم
-، وأبو بكر أدرك منزلة عمر التي أنزلها إياه رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -؛ حيث كان - عليه الصلاة والسلام - كثيرًا ما يقول: ((جِئتُ أنا وأبو
بكر وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر))، فعهِدَ أبو بكرٍ بالخلافة من بعده
لعُمر.
والوفاءُ يعظُم مع الوالدَيْن؛ فقد تعِبا لراحتك،
وسهِرَا لنومِك، وكدَحَ الوالدُ لعَيشِك، وحمَلَتك أمّك كرهًا ووضعَتْك
كُرهًا، وأوّل واجبٍ فرَضَه الله من حقوقِ الخَلق البرُّ بالوالدين، قال -
تعالى -: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[الإسراء: 23]، ومن الوفاءِ لهما الدعاء
لهما: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء:
24]، وطاعتُهُما في غيرِ معصيةٍ، وفعلُ الجميل معهما، وإدخالُ السرور على
نفوسِهما، ومن البرِّ بهما أن يريَا ثمرةَ جُهدهما على أولادهما بِسلوكهم
طريقَ الاستقامةِ والصّلاح، ومن الوفاء لهما إكرامُ صديقهما بعد موتهما.
مرَّ أعرابيٌّ علَى ابنِ عمَرَ فقال له ابنُ عمر: ألستَ
ابنَ فلان بن فلان؟ قال: بلى، فأعطاه ابنُ عمر دابّةً كان يركبها وقال:
اركبها، وأعطاه عِمامَته وقال: اشدُد بها رأسَك، فقال له بعضُ أصحابه: غفَر
الله لك، أعطيتَ هذا الأعرابيَّ دابةً كنتَ تروح عليها وعِمامةً كنت تشدُّ
بها رأسك! فقال: إني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن
من أبرِّ البرِّ صلةَ الرجل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يُولِّي))، وإنّ أباه
كان صديقًا لعُمر. [رواه مسلم].
ومن الوفاء الوفاءُ بين الزوجين؛ فقد جمَعَهما عقدٌ
عظيم، قال - سبحانه -: (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)[النساء:
21]، وخديجةُ بنتُ خويلدٍ - رضي الله عنها - واسَتِ النبيَّ - صلى الله
عليه وسلم - بمالها، ورُزِق منها الوَلَد، وأوّلُ من صدَّقه وآمن به من
النساء، وهِي التي ثبَّتَت فؤادَه عند نزولِ الوحي، وقوَّتْ عزيمتَه، وكانت
خيرَ زوجةٍ لزوجِها في حياتها. قال ابن حجر - رحمه الله -: "كانت حريصةً
على رِضاه بكلّ ممكن، ولم يصدُر منها ما يُغضبُه قطّ". فقابَل رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وفاءَها بوفاءٍ أعظَمَ منه، فكان في إحسانها
يشكُرُها، وظلَّ بعد موتها يُكثِر ذكرها ويقول عنها: ((إني رُزِقتُ
حبَّها))[رواه مسلم]. وربما ذبح الشاةَ ثم يُقطِّعها أعضَاء، ثم يبعثها في
صَدائقِ خَديجة، ويقول: "إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد". قال النوويّ -
رحمه الله -: "في هذا كلِّه دليلٌ لحُسنِ العهدِ وحِفظِ الوُدّ، ورعايةِ
حُرمة الصّاحب والعشير في حياته وبعد وفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب".
ومن الوفاء محبّةُ العلماء وتوقيرُهم وإجلالهم؛ إذ هم
حملَةُ الدين وورثة المرسلين. قال الطحاويّ - رحمه الله -: "وعلماءُ
السّلَف من السابقين ومن بعدهم أهلُ الخبر والأثر وأهلُ الفقه والنظر لا
يُذكَرون إلا بالجميل". قال الإمام أحمدُ - رحمه الله -: "ما بِتُّ منذ
ثلاثين سنَة إلا وأنا أدعو للشافعيّ وأستغفر له".
وللصّاحب وفاءٌ يتحقَّقُ بشكر أفعاله وحفظ سرِّه ووُدِّه، والثناء الحسن عليه، ومَنع وصولِ الأذى إليه، وبذل الندَى له ولأولادِه.
ومَن صنَع إليك معروفًا فكافِئْه عليه، فإن لم تجد ما تُكافِئُه فادعُ له فإنه من الوفاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن: 60].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم
بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم
ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقِه وامتنانه،
وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ
نبيَّنا محمَّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم
تسليمًا مزيدًا.
أمّا بعد: أيُّها المسلمون، الوفاءُ صِدقُ اللسانِ
والفِعل معًا، ويُحدِث الوَفاء في نفسِ الوفيِّ من الغِبطَة والسرور ما لا
حدَّ له، وفي نفسِ المُوفَى له الرغبة في البرِّ والمُجازاة، ومن جحَد
معروفًا فهذا ممن صغُرَت همَّته عن الوفاء، وليكن العمَل في العطاءِ وغيرِه
خالصًا لوجهِ الله، فإنِ استنكَف أحدٌ عن ردِّ معروفٍ أسدَيتَه فلا يحزُنك
ذلك، فأنتَ تطلبُ الثوابَ على المعروفِ منَ الله لا من البَشَر، مُمتثلاً
قولَ الله: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ
جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان: 9].
فاحرِصوا علَى الوفاء؛ ففيه سلامةُ القلبِ والنَّماء،
واجتهِدوا في التَّحلِّي بكلّ خُلقٍ كريم ووصفٍ حميد، فهو عنوان الظَّفَر
والفلاح.
واعلَموا أنَّ الله أمركم بالصّلاة والسّلام على نبيِّه...
الكاتب: عبد المحسن بن محمد القاسم