عدة الداعي .. الفهم الدقيـق
عدة الداعي .. الفهم الدقيـق
تقديم العلم على العمل ضروري للداعية حتى
يعلم ما يريد ليقصده ويصل إليه ، وما يقوم به الداعية ينسب لله رب
العالمين ؛ فكان لزاما على من يدعو إلى الله أن يكون على علم وبصيرة بما
يدعو إليه ، وعلى دراية بمشروعية ما يقول ويفعل ؛ حتى لا يقع في الخبط
والخلط والقول على الله ورسوله بغير علم .
فالعلم لازم من لوازم الدعوة ، وأصل في تكوين الداعية ، وضابط العلم المقصود هنا هو ما قام عليه الدليل الشرعي.
وإذا كان فضل العلم مذكورا ، فكذلك الداعي إليه مكان غير منكور { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } (الجادلة :11)
وفي الحديث عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : l]من
سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة
لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن
في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على
سائر الكواكب ، إن العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا
ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ] (رواه الترمذي وأبو داود وأحمد ).
وقال
الإمام أحمد : الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب . لأنهم
يحتاجون إليهما في اليوم مرة أو مرتين، وحاجتهم إلى العلم بعدد أنفاسهم .
مقصود الفهم الدقيق
إنما
نعني بالقهم الدقيق هنا ما وراء مجرد العلم والحفظ ، ألا وهو الغاية من
العلم والمقصود من وراء تعلمه ، وهو أثر العلم على صاحبه .
يقول الشيخ
عبد الكريم زيدان في كتابه أصول الدعوة : ومن العلم العزيز النادر الذي
يغفل عنه الكثيرون ـ مع دلالة القرآن عليه وتصريحه به والدعوة إليه ـ علم
طريق الآخرة الذي يهيج القلب ويزعجه ويدفعه إلى سلوكه ، ويشعر صاحبه بغربته
في الدنيا وقرب رحيله عنها إلى سفر بعيد لا يرجع بعدة إلى دنياه ولا ينفع
فيه زاد إلا التقوى، ولذلك فهو دائما مشغول بإعداد هذا الزاد { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } متطلعا
إلى ما هناك ، إلى مايؤول إليه أمره بعد سفره البعيد ، أيكون مصيره إلى
نار جهنم ، وفي ذلك شقاؤه العظيم ، أم يكون مصيره في دار النعيم بجوار الرب
الكريم ؟ إنه لهذه العاقبة المجهولة يكون دائما بين الخوف والرجاء ، ولكنه
خوف العارف لا الجاهل ، ورجاء العامل لا الخامل ..
إن هذا العلم هو
الذي قل وجوده بين الناس وبين طلاب العلم ، وبدونه لا يعتبر العالم عالما ،
وإن حفظ الشروح والمتون والأحكام وملأ رأسه منها ورددها على لسانه ..
إن هذا العلم هو لب العلم وغايته ، وكل مسلم محتاج إليه ، والعالم أشد حاجة إليه ، والداعي أحوج من الجميع إليه..
إن
هذا العلم هو الذي نسميه (الفهم الدقيق ) وهو الذي فقهه الصاحبة الكرام ،
وأشربت به عقولهم وقلوبهم فضنوا بوقتهم أن يذهب سدى في غير طاعة الله
والدعوة إليه ، فنشطت جوارحهم في العبادة والجهاد في سبيل الله والدعوة
إليه حتى أتاهم من ربهم اليقين .
تدبر القرآن والسنن
يقوم
الفهم الدقيق على تدبر معاني القرآن ومداومة النظر فيها ،والوقوف عندها
والتغلغل في مراميها ومقاصدها ، فإن القرآن الكريم لهذا أنزل { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب }( ص:29) .
وبهذا
التدبر سيقف الداعي على دعوة الرحمن وعاقبتها ، ودعوة الشيطان ومآل أهلها ،
وهذه المعرفة تميز للداعي بين الحق والباطل ، وتجعل له فرقانا وتضيء له
نورًا يفرق به بين الهدى والضلال والغي والرشاد ، فينشرح صدره ، ويبتهج
قلبه ، ويتعلق بالآخرة الباقية ، ويعزف عن الدنيا الفانية ، ويصير له شأن
وللناس شأن آخر .
وإنما يتأتي هذا الفهم ويتم مقصوده إذا عرف المرء غايته في الحياة وعمل بهذه المعرفة .
فمهمة
العبد في هذه الدنيا وغايته منها هو عبادة الله وحده ، والجهاد في سبيله ،
يجاهد نفسه حتى يحملها على الطاعة ويبعدها عن المعصية ، ويجاهد بقلمه
ولسانه وماله ويده في سبيل الله حتى تعلو كلمة الله ويستنير البشر بنور
الإسلام ، ولا مجال للتخلي عن هذه المهمة الشريفة ، وهذه المكرمة العظيمة
التي أكرمه الله بها .
وهذه المعرفة لابد لها من عمل وأثر ؛ فيكون
معها قطع التسويف وقصر الأمل مع الإحساس بالغربة في هذه الحياة ، فليس أفسد
للقلب من التعلق بالدنيا والركون إليها وإيثارها على الآخرة ، وهيهات لقلب
فاسد مريض أن يقوى على مهام الدعوة إلى الله تبارك وتعالى{فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم} … صدق الله العظيم .