((( غذاء القلب وشفاؤه ))) من دُرَر ابن القيم رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
(( ويكفي العاقلَ
البصيرَ الحيَّ القلبِ فكرةٌ في فرعٍ واحدٍ من فروعِ الأمرِ والنهي، وهو الصلاةُ، وما اشتملت عليه من الحِكم
الباهرة، والمصالح الباطنة والظاهرة، والمنافع المتصلةِ بالقلبِ والروحِ والبدن،
والقوى التي لو اجتمع حكماء العالَم قاطبةً واستفرغوا قواهم وأذهانَهم؛ لَما
أحاطوا بتفاصيل حِكَمِها وأسرارِها وغاياتِها المحمودة، بل انقطعوا
كأنهم دون أسرارِ الفاتحة، وما
فيها من المعارض الإلهية، والحِكم الربانية، والعلومِ النافعةِ، والتوحيدِ التام،
والثناءِ على الله بأصولِ أسمائِهِ وصفاتِه، وذكرِ أقسام الخليقةِ باعتبار غاياتِهم
ووسائلِهم،
وما في مقدماتِها
وشروطِها من الحِكمِ العجيبةِ من تطهيرِ الأعضاءِ والثيابِ والمكانِ، وأخذِ
الزينة، واستقبالِ بيتِهِ الذي جعلَهُ إمامًا للناس، وتفريغِ القلب لله، وإخلاصِ
النيةِ، وافتِتاحِها بكلمةٍ جامعةٍ لمعاني العبوديةِ، دالّةٍ على أصولِ الثناءِ
وفروعِهِ، مُخَرِّجَةٍ مِن القلبِ الالتفاتَ إلى ما سواه، والإقبالَ على
غيرِه.
ثمّ أخذَ في تسبيحِهِ وحمْدِهِ وذكره تبارك
اسمُه، وتعالى جَدُّه وتفردُّهُ بالإلَهية.
ثمّ
أخذَ في الثناءِ عليه بأفضلِ ما يُثنى عليه بِهِ مِن حمدِه، وذِكْرِ ربوبيتِهِ
للعالَم، وإحسانِهِ إليهم، ورحمتِهِ بهم، وتمجيدِهِ بالمَلِك الأعظم في اليوم الذي
لا يكون فيه مَلِك سواه حين يجمعُ الأولين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ ويدينهم
بأعمالهم، ثم إفرادِه بنوعيْ التوحيد: توحيدِ ربوبيتِهِ استعانةً به، وتوحيدِ
إلَهيتِهِ عبوديةً له.
ثم سؤالِه
أفضلَ مسؤولٍ، وأجَلَّ مطلوبٍ على الإطلاق؛ وهو هدايةُ الصراطِ المستقيمِ
الذي نصبَه لأنبيائِه ورسلِه وأتباعِهم، وجعَلَه صراطًا موصلًا لِمَنْ سلكه إليه
وإلى جنته، وأنه صراطُ مَن اختصَّهم بنعمته بأنْ عرَّفهم الحقَّ وجعلهم متّبِعين
له، دون صراطِ أمَّةِ الغضب الذين عَرَفوا الحقَّ ولم يتبعوه، وأهلِ الضَّلال الذين
ضلُّوا عن معرفته واتِّباعه.
فتضمنتْ: تعريفَ الرب، والطريق الموصل إليه، الغاية بعد الوصول.
وتضمنت الثناء، والدعاء،
وأشرفَ الغاياتِ وهي العبودية، و أقربَ الوسائلِ إليها وهي الاستعانة، مقدِّمًا
فيها الغايةَ على الوسيلة، والمعبودَ المُستعان على الفِعل، إيذانًا لِاخْتصاصه،
وأن ذلك لا يصلح إلا له سبحانه.
وتضمنت ذكرَ
الإلهية والربوبية والرحمة، فيثنى عليه ويعبد بإلهيته، ويخلق ويرزق، ويُميت ويُحيي،
ويُدبّر المُلْكَ، ويضل مَنْ يستحق الإضلالَ، ويغضب على مَن يستحق الغضبَ بربوبيته
وحكمته، وينعم ويرحم، ويجود ويعفو ويغفر، ويهدي ويتوب برحمته.
فلله كم في هذه السورة من أنواع المعارفِ والعلومِ والتوحيدِ وحقائقِ
الإيمان.
ثم يأخذ بعد ذلك في
تلاوة ربيعِ القلوبِ، وشفاء الصدور، ونور البصائر، وحياةِ الأرواح؛ وهو كلامُ رب
العالمين.
فيَحِلُّ به في ما شاء من
روضاتٍ مونقات، وحدائقَ مُعْجِبات، زاهيةٍ أزهارُها، مونقةٍ ثمارُها، قد ذُلِّلَتْ
قطوفُها تذليلا، وسُهِّلت لمُتناولِها تسهيلا، فهو يجتني مِن تلك الثمارِ خيرًا
يؤمَرُ به، وشرًّا يُنْهى عنه، وحكمةً وموعظةً وتبصرةً وتذكرةً وعبرةً وتقريرًا
لحقٍّ، ودحضًا لباطل، وإزالةً لشبهةٍ، وجوابًا عن مسألةٍ، وإيضاحًا لمُشْكِلٍ،
وترغيبًا في أسبابِ فلاحٍ وسعادة، وتحذيرًا من أسبابِ خسران وشقاوة، ودعوةً إلى
هُدى، وردًّا عن ردى، فتنزلُ على القلوب نَزْل الغيثِ على الأرض التي لا حياةَ لها
بدونِه، ويَحِلُّ منها مَحَلَّ الأرواحِ من أبدانها.
فأي نعيمٍ وقرةِ عينٍ ولذةِ قلبٍ، وابتهاجٍ وسرور لا يحصل له في هذه
المناجاة والرب تعالى يسمع لكلامه جاريًا على لسان عبده، ويقول: حمِدني عبدي، أثنى
عليّ عبدي، ومجَّدني عبدي!
ثم يعود إلى تكبير ربه
عز وجل؛ فيجد ربه عهد التذكرة كونه أكبر من كل شيء بحق عبوديته وما ينبغي أن يعامَل
به.
ثم يرجع جاثيًا له ظهرَه خضوعًا لعظمتِه،
وتذلُّلا لعزتِه، واستكانةً لجَبَروتِه، مسبِّحًا له بذكرِ اسمِهِ العظيم. فنزه
عظمتَه عن حالِ العبد وذلِّه وخضوعه، وقابل تلك العظمةَ بهذا الذُّل والانحناء
والخضوع، قد تطامن وطأطأ رأسَه وطوى ظهرَه، وربُّه فوقه،
يرى خضوعَه وذُلَّه، ويسمع كلامَه؛ فهو ركنُ تعظيم ٍ وإجلال، كما قال -صلى الله
عليه وسلم-: " أما الركوع فعظِّموا فيه الرَّبَّ ".
ثم عاد إلى حاله من القيام، حامدًا لربه،
مُثنيًا عليه بأكمل محامدِه، وأجمعها وأعمِّها، مُثنيًا عليه بأنه أهلُ الثناء
والمَجْد، معترفًا بعبوديته، شاهدًا بتوحيدِه، وأنه لا مانعَ لِما أعطى، ولا مُعطيَ
لما منع، وأنه لا ينفع أصحابَ الجدودِ والأموال والحظوظ، جدودُهم عنده -ولو
عظمت-.
ثم يعود إلى
تكبيرِهِ، ويخِرُّ له ساجدًا على أشرف ما فيه وهو الوجه، ويُعَفِّرُه في
التراب، ذُلاًّ بين يديه ومسكنةً وانكسارًا، وقد أخذ كلُّ عضْوٍ من البدن حظَّه من
هذا الخضوع، حتى أطرافُ الأنامِلِ ورؤوسِ الأصابع.
...
ثم أُمِر أن يسبِّح
ربَّه الأعلى، فيذكرَ علوَّه سبحانه في حال سفولِهِ هو، ينزِّهه عن مثل هذه
الحال. وإن من هو فوق كل شيء وعالٍ على كل شيء؛ ينزَّه عن
السفول بكل معنى، بل هو الأعلى بكل معنى من معاني العلو.
ولما كان هذا غاية ذلِّ العبدِ وخضوعه وانكساره؛ كان أقرب ما يكون
الربُّ منه في هذه الحال. فأُمِر أن يجتهدَ في الدعاءِ لقُربه من القريب المجيب،
وقد قال تعالى: {واسْجُدْ واقترِبْ}.
وكأن الركوع
كالمقدمة بين يديْ السجود، والتوطئةِ له؛ فينتقل من خضوع ٍ إلى خضوع أكمل وأتمَّ
منه وأرفع شأنًا.
وفَصَل بينهما بِرُكْنٍ مقصود
في نفسه يجتهد فيه بالحمد والثناء والتمجيد، وجعل بين خضوع ٍ قَبْلَه وخضوع ٍ بعده.
وجعل خضوعَ السجود بعد الحمد والثناء والمجد، كما
جعل خضوع الركوع بعد ذلك.
فتأمل هذا
الترتيبَ العجيب، وهذا التنقُّل في مراتب العبودية، كيف ينتقل من مقام الثناء على
الرب بأحسن أوصافه وأسمائه، وأكملِ محامده إلى مَن له خضوعُه وتذَلُّلُه أن له هذا
الثناء.
ويستصحب في مقامِه خضوعَه بما يناسب ذلك
المقام ويليق به؛ فيذكر عظمةَ الرب في حالِ خضوعه، وعلوَّه في حال
سفوله.
ولما كان أشرف أذكار الصلاة: (القرآن)؛
شُرِع في أشرف أحوال الإنسان وهي: (القيام) التي قد انتصب فيها قائمًا على أحسن
هيئة. ولما كان أفضل أركانها الفعلية: (السجود)؛ شرع فيها بوصف التكرار.
وجعل خاتمة الركعة وغايتها التي انتهت إليها
مطابق افتتاح الركعةِ بالقرآن واختتامها بالسجود: أول سورة افتتح بها الوحي فإنها
بُدِئت بالقراءة، وخُتمت بالسجود.
وشرع له
بين هذين الخضوعين أن يجلس جلسة العبيد، ويسأل ربه أن يغفر له ويرحمه،
ويرزقه،ويهديه، ويعافيه. وهذه الدعوات تجمع له خير دنياه
وآخرته.
ثم شرع له تكرار هذه الركعة مرة بعد مرة، كما شرع تكرار الأذكار
والدعوات مرة بعد مرة؛ ليستعد بالأول لتكميل ما بعده، ويجبرَ بما بعده ما قبْله،
وليشبع القلبَ من هذا الغذاء، وليأخذَ زاده ونصيبه وافرًا من الدواء
ليقاومه.
فإن منزلة الصلاة من القلب منزلة
الغذاء والدواء. فإذا تناول الجائع الشديد الجوع من اللقمة أو اللقمتين؛ كان غناؤها
عنه وسدها من جوعه يسيرًا جدًّا.
وكذلك المرض
الذي يحتاج إلى قدر يغني من الدواء؛ إذا أخذ منه المريض قيراطًا من ذلك؛ لم يَزُلْ
مرضُه بالكلية، وأزال بحسَبِه.
فما حصل
الغذاءُ أو الشفاءُ للقلب بمثل الصلاة، وهي لصحتِه ودوائه بمنزلة غذاء البدن
ودوائه.
ثم لما أكمل صلاته شرع له أن يقعد
قعدة العبد الذليل المسكين لسيده، ويثني عليه بأفضل التحيات، ويسلم على مَن جاء
بهذا الحظ الجزيل، ومن نالته الأمة على يديه.
ثم
يسلم على نفسه، وعلى سائر عباد الله المشارِكين له في هذه
العبودية.
ثم يتشهد شهادة
الحق.
ثم يعود فيصلي على مَن علَّم الأمة هذا
الخير، ودلَّهم عليه.
ثم شرع له أن يسأل حوائجَه،
ويدعو بما أحب ما دام بين يدي ربه مقبلاً عليه.
فإذا قضى ذلك؛ أذن له في الخروج منها بالتسليم على المشاركين له في
الصلاة.
...
هذا والذي ذكرناه من شأنها كـ (قطرة من بحر)!)).
[من كتاب "شفاء
العليل" لابن القيم -رحمه الله-،
(393-396)].
((( منقول )))