"من درر إبن القيم"
من
أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه، وشدة الاعتناء به، فإن علو
البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه، فالموفق همته تصحيح الأساس
وإحكامه، والجاهل يرفع في البناء عن غير أساس فلا يلبث بنيانه أن يسقط: {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم}
لما علم الله سبحانه أن قلوب المشتاقين إليه لا تهدأ إلا بلقائه، ضرب لهم أجلا للقاء تسكينا لقلوبهم، فقال تعالى: {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت}
لمن يشكو عدم تأثره بالقرآن، خذها من مجرب:
القلب محل تلقي الوحي، فإذا أردت الانتفاع بالوحي فلا بد من تفريغ القلب من
ضده، لأن إصغاء القلب كإصغاء الأذن, فإذا أصغى إلى غير حديث الله, لم يبق
فيه إصغاء ولا فهم لحديثه، وإذا امتلأ بالشبه والشكوك، والمضحكات، والصور
المحرمة، والغناء الذي يصد عن الوحي، جاءته حقائق القرآن فلم تجد فيه
فراغا لها ولا قبولا, فتعدته وجاوزته إلى محل سواه. قال تعالى في الثناء على أيوب عليه السلام: {إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابرا، وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلي فإنه بئس العبد.
الحيوان البهيم يتأمل العواقب، وأنت لا ترى إلا الحاضر!
ما تكاد تهتم بمؤونة الشتاء حتى يقوى البرد، ولا بمؤونة الصيف حتى يقوى
الحر، والذر يدخر الزاد من الصيف لأيام الشتاء، أفتراك ما علمت قرب رحيلك
إلى القبر، فهلا هيأت لنفسك فراشا تمهد به الطريق؟ {ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون}
لقد عظمت نعمة الله على عبد أغناه بفهم كتابه عن الفقر إلى غيره: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون}
وقوله{يمحق الله الربا ويربي الصدقات}
"تأمل حكمته تعالى في محق أموال المرابين وتسليط المتلفات عليها، كما
فعلوا بأموال الناس ومحقوها عليهم وأتلفوها بالربا؛ فجوزوا إتلافا بإتلاف!
فقل أن ترى مرابيا إلا وأمره إلى محق وقلة وحاجة"اهـ.
وها هي أخبار الأزمة الاقتصادية وانهيار مئات البنوك تعم العالم
وقوله{وعلى الثلاثة الذين خلفوا}
قال كعب بن مالك رضي الله عنه: "وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا عن
الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل
منه".
علق ابن القيم فقال: فسرها كعب بالصواب، فليس ذلك تخلفهم عن الغزو؛ لأن الله لو أراد ذلك لقال: وعلى الثلاثة الذين تخلفوا.
وقوله{يا أيها الدين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم}
ليس المراد من هذه العداوة ما يفهمه كثير من الناس: أنها عداوة البغضاء
والمحادة، بل إنما هي عداوة المحبة الصادة للآباء عن الهجرة، والجهاد،
والتعلم، والصدقة، وغير ذلك من أمور البر وأعمال الخير.
وقوله{ولكم نصف ما ترك أزواجكم}
"تأمل تعليقه سبحانه التوارث بلفظ الزوجة دون المرأة، إيذانا بأن هذا
التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب, والمؤمن والكافر لا
تشاكل بينهما ولا تناسب، فلا يقع بينهما التوارث، وأسرار مفردات القرآن
ومركباته فوق عقول العالمين.
وقوله{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس...، أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو}؟
ويشبه أن يكون تحت هذا الخطاب نوع من العتاب لطيف عجيب! وهو أني عاديت
إبليس إذ لم يسجد لأبيكم آدم مع ملائكتي، فكانت معاداته لأجلكم، ثم كان
عاقبة هذه المعاداة أن عقدتم بينكم وبينه عقد المصالحة؟
وقوله{فبعث الله غرابا يبحث في الأرض}
تأمل الحكمة في إرسال الله تعالى لابن آدم الغراب، المؤذن اسمه بغربة
القاتل من أخيه، وغربته هو من رحمة الله، وغربته من أبيه وأهله واستيحاشه
منهم واستيحاشهم منه
وقوله{وإن الله بكم لرءوف رحيم} أقرب الخلق إلى الله تعالى أعظمهم رأفة ورحمة، كما أن أبعدهم منه من اتصف بضد صفاته.
وقوله{إن الله يُسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور} شبه سبحانه من لا يستجيب لرسوله بأصحاب القبور، وهذا من أحسن التشبيه، فإن أبدانهم قبور قلوبهم فقد ماتت قلوبهم وقبرت في أبدانهم.
"من درر إبن القيم"