سمات علماء الآخره
أولا :***
أن لا يطلب الدنيا بعلمه .. فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا
وخستها وكدورتها وانصرامها وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها
.. ويعلم أنهما متضادتان وأنهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى
.. وأنهما ككفتي الميزان مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى .. وأنهما كالمشرق
والمغرب مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر .. وأنهما كقدحين أحدهما مملوء
والآخر فارغ فبقدر ما تصب منه في الآخر حتى يمتلىء يفرغ الآخر.
فإن من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذاتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل.
فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك .. فكيف يكون من العلماء من لا عقل له
.. ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب الإيمان .. فكيف
يكون من العلماء من لا إيمان له .. ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن
الجمع بينهما طمع في غيرما مطمع .. فهو جاهل بشرائع الأنبياء كلهم .. بل
هو كافر بالقرآن كله من أوله إلى آخرة .. فكيف يعد من زمرة العلماء .
ومن علم هذا كله ثم لم يؤثر الآخرة على الدنيا فهو أسير الشيطان قد أهلكته
شهوته وغلبت عليه شقوته .. فكيف يعد من حزب العلماء من هذه درجته ..
********
ثانيا *** الصمت و
الزهد .. و كلمه لا ادرى .. فاذا سئل عما يعلمه تحقيقاً بنص كتاب الله أو
بنص حديث أو إجماع أو قياس جلي .. أفتى .. وإن سئل عما يشك فيه قال: لا
أدري! .. وإن سئل عما يظنه باجتهاد وتخمين احتاط ودفع عن نفسه .. وأحال
على غيره إن كان في غيره غنية .. هذا هو الحزم .. لأن تقلد خطر الاجتهاد
عظيم .. وفي الخبر " العلم ثلاثة: كتاب ناطق وسنة قائمة ولا أدري "
قال الشعبي: " لا أدري " نصف العلم.
ومن سكت حيث لا يدري لله تعالى فليس بأقل أجراً ممن نطق .. لأن الاعتراف
بالجهل أشد على النفس فهكذا كانت عادة الصحابة والسلف رضي الله عنهم.
كان ابن عمر إذا سئل عن الفتيا قال: اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلد أمور
الناس فضمها في عنقه .. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الذي يفتي
الناس في كل ما يستفتونه لمجنون .. وقال: جنة العالم " لا أدري "
فإن أخطأها فقد أصيبت مقاتله.
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ليس شيء أشد على الشيطان من عالم يتكلم
بعلم ويسكت بعلم يقول: انظروا إلى هذا سكوته أشد علي من كلامه.
ومر علي وعبد الله رضي الله عنهما برجل يتكلم على الناس فقال: هذا يقول اعرفوني.
وقال بعضهم: إنما العالم الذي إذا سئل عن المسئلة فكأنما يقلع ضرسه.
وقال أبو حفص النيسابوري: العالم هو الذي يخاف عند السؤال أن يقال له
يوم القيامة من أين أجبت .. وكان إبراهيم التيمي إذا سئل عن مسئلة يبكي
ويقول: لم تجدوا غيري حتى احتجتم إلي.
وقال صلى الله عليه وسلم " ما أدري أعزيز نبي أم لا وما أدري أتبع ملعون أم لا وما أدري ذو القرنين نبي أم لا " ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خير البقاع في الأرض وشرها قال " لا أدري " حتى نزل عليه جبريل عليه السلام فسأله فقال " لا أدري "
إلى أن أعلمه الله عز وجل أن خير البقاع المساجد وشرها الأسواق " وكان
ابن عمر رضي الله عنهما يسئل عن عشر مسائل فيجيب عن واحدة ويسكت عن تسع.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يجيب عن تسع ويسكت عن واحدة.
وكان في الفقهاء من يقول " لا أدري " أكثر مما يقول " أدري " منهم
سفيان الثوري ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل والفضيل ابن عياض وبشر بن
الحرث.
وقال بعضهم: كان الصحابة يتدافعون أربعة أشياء .. الإمامة والوصية والوديعة والفتيا.
وقال بعضهم: كان أسرعهم إلى الفتيا أقلهم علماً .. وأشدهم دفعاً لها أورعهم.
وكان شغل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في خمسة أشياء: قراءة القرآن
.. وعمارة المساجد .. وذكر الله تعالى .. والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر.
وذلك لما سمعوه من قوله صلى الله عليه وسلم "
كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ثلاثة: أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو
ذكر الله تعالى " وقال تعالى " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر
بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس " الآية.
وقال ابن حصين: إن أحدهم ليفتي في مسئلة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر.
فلم يزل السكوت دأب أهل العلم إلا عند الضرورة.
وفي الحديث " إذا رأيتم الرجل قد أوتي صمتاً وزهداً فاقتربوا منه فإنه يلقن الحكمة .
وكانوا يقولون: فلان عالم .. وفلان متكلم .. وفلان أكثر كلاماً .. وفلان
أكثر عملاً .. وقال أبو سليمان: المعرفة إلى السكوت أقرب منها إلى
الكلام وقيل: إذا كثر العلم قل الكلام وإذا كثر الكلام قل العلم
فكان أبو الدرداء يتوقف بعد ذلك إذا سئل وكان أنس رضي الله عنه إذا سئل يقول: سلوا مولانا الحسن.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا سئل يقول: سلوا حارثة ابن زيد وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: سلوا سعيد بن المسيب.
و منها ان يتعلم اليقين .. فاليقين هو رأس مال الدين .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اليقين الإيمان كله "
******
ثالثا : *** أن يكون
حزيناً منكسراً مطرقاً صامتاً يظهر أثر الخشية على هيئته وكسوته وسيرته
وحركته وسكونه ونطقه وسكوته .. لا ينظر إليه ناظر إلا وكان نظره مذكراً
الله تعالى .. وكان صورته دليلاً على عمله فالجواد عينه مرآته .. وعلماء
الآخرة يعرفون بسيماهم في السكينة والذلة والتواضع .. وقد قيل ما ألبس
الله عبداً لبسة أحسن من خشوع في سكينة .. فهي لبسة الأنبياء وسيما
الصالحين والصديقين والعلماء .. وأما التهافت في الكلام والتشدق
والاستغراق في الضحك والحدة في الحركة والنطق .. فكل ذلك من آثار البطر
والأمن والغفلة عن عظيم عقاب الله تعالى وشديد سخطه .. وهو دأب أبناء
الدنيا الغافلين عن الله دون العلماء به .. وهذا لأن العلماء ثلاثة كما
قال سهل التستري رحمه الله: عالم بأمر الله تعالى لا بأيام الله وهم
المفتون في الحلال والحرام وهذا العلم لا يورث الخشية .. وعالم بالله
تعالى لا بأمر الله وهم عموم المؤمنين .. وعالم بالله تعالى وبأمر الله
تعالى وبأيام الله تعالى وهم الصديقون .. والخشية والخشوع إنما تغلب عليهم
.. وأراد بأيام الله أنواع عقوباته الغامضة ونعمه الباطنة التي أفاضها على
القرون السالفة واللاحقة فمن أحاط علمه بذلك عظم خوفه وظهر خشوعه.
وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار
والحلم وتواضعوا لمن تتعلمون منه وليتواضع لكم من يتعلم منكم ولا تكونوا
من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم.
ويقال ما آتى الله عبداً علماً إلا آتاه معه حلماً وتواضعاً وحسن خلق ورفقاً فذلك هو العلم النافع.
وفي الأثر: من آتاه الله علماً وزهداً وتواضعاً وحسن خلق فهو إمام المتقين.
وفي الخبر "
إن من خيار أمتي قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمة الله ويبكون سراً من خوف
عذابه .. أبدانهم في الأرض وقلوبهم في السماء .. أرواحهم في الدنيا
وعقولهم في الآخرة .. يتمشون بالسكينة ويتقربون بالوسيلة " وقال الحسن: الحلم وزير العلم والرفق أبوه والتواضع سرباله.
ويروى في الإسرائيليات أن حكيماً صنف ثلثمائة وستين مصنفاً في الحكمة حتى
وصف بالحكيم فأوحى الله تعالى إلى نبيهم.. قل لفلان قد ملأت الأرض
نفاقاً ولم تردني من ذلك بشيء وإني لا أقبل من نفاقك شيئاً.
فندم الرجل وترك ذلك .. وخالط العامة في الأسواق وواكل بني إسرائيل ..
وتواضع في نفسه .. فأوحى الله تعالى إلى نبيهم: قل له الآن وفقت
لرضاي.
وحكى الأوزاعي رحمه الله عن بلال بن سعد: أنه كان يقول ينظر أحدكم إلى
الشرطي فيستعيذ بالله منه وينظر إلى علماء الدنيا المتصنعين للخلق
المتشوفين إلى الرياسة فلا يمقتهم وهم أحق بالمقت من ذلك الشرطي.
وقال صلى الله عليه وسلم
" إن أكثر الناس أماناً يوم القيامة أكثرهم فكراً في الدنيا وأكثر الناس
ضحكاً في الآخرة أكثرهم بكاء في الدنيا وأشد الناس فرحاً في الآخرة أطولهم
حزناً في الدنيا "
وقال بعض السلف: العالم إذا ضحك ضحكة مج من العلم مجة.
وقيل: إذا جمع المعلم ثلاثاً تمت النعمة بها على المتعلم: الصبر والتواضع وحسن الخلق.
وإذا جمع المتعلم ثلاثاً تمت النعمة بها على المعلم: العقل والأدب وحسن الفهم.
وعلى الجملة فالأخلاق التي ورد بها القرآن لا ينفك عنها علماء الآخرة لأنهم يتعلمون القرآن للعمل لا للرياسة.
وفي الخبر : كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتينا الإيمان قبل
القرآن وستأتي بعدكم قوم يؤتون القرآن قبل الإيمان .. يقيمون حروفه
ويضيعون حدوده وحقوقه .. يقولون قرأنا فمن أقرأ منا .. وعلمنا فمن أعلم
منا .. فذلك حظهم.
وفي لفظ أولئك شرار هذه الأمة.
******
رابعا : *** خمس من
الأخلاق هي من علامات علماء الآخرة مفهومة من خمس آيات من كتاب الله عز
وجل: الخشية .. والخشوع .. والتواضع .. وحسن الخلق .. وإيثار الآخرة على
الدنيا وهو الزهد .. فأما الخشية فمن قوله تعالى " إنما يخشى الله من عباده العلماء " .. وأما الخشوع فمن قوله تعالى " خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً " .. وأما التواضع فمن قوله تعالى " واخفض جناحك للمؤمنين " .. وأما حسن الخلق فمن قوله تعالى " فبما رحمة من الله لنت لهم " .. وأما الزهد فمن قوله تعالى " وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً " .. ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام " فقيل له ما هذا الشرح فقال " إن النور إذا قذف في القلب انشرح له الصدر وانفسح " ..............