نفحات الغفران وشؤم الهجران
نفحات
الغفران وشؤم الهجران
كتبه/ أحمد الفيشاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن من أعظم مؤشرات الإيمان حصول الألفة والمحبة واللين بين
عباد الله المؤمنين، وبقدر ما يزيد الإيمان تزيد المحبة والألفة، وبقدر ما
ينقص تنقص، ولربما نقص الإيمان إلى حد تظهر معه النكارة والجفاء، والهجر
والشحناء، والعداوة والبغضاء -والعياذ بالله تعالى-.
وللخصومات أسباب، ظاهرها سوء الخلق، وباطنها مرض القلب، فما
مِن ظاهر إلا وله باطن، وما مِن خُلق إلا وله جذور في القلب، فمهما حاول
العبد إصلاح خُلقه الظاهر دون حقيقته الباطنة باء ذلك بالفشل، وكان كالمريض
الموجوع الذي يتعاطى مُسكنـًا دون أن يعالج سبب المرض، فإنه لا يلبث أن
يعاوده الوجع، أو كالمجروح الذي يطفح جرحه بالصديد، فيكتفي بمسحه وغسله دون
أن يأخذ من الأدوية ما يعالجه ويجففه، فإنه لا يلبث أن يطفح مرة أخرى.
فالشحناء التي تقع بين العباد هي عَرَض أكثر منها مرض،
ومفاسدها لا تـُكاد تحصى، ولعل من أقرب تلك المفاسد وأخطرها فوات المغفرة
على صاحبها أو نقص نصيبه منها، كما في الحديث أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال: (تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ
وَاثْنَيْنِ، فَيَغْفِرُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
لِكُلِّ امْرِئٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلاَّ امْرَءًا كَانَتْ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: "ارْكُوا -أخِّروا- هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، ارْكُوا
هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا) (رواه مسلم).
وقريب منه قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي
لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ
لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، فتأمل كيف قرنت الشحناء بالشرك، فأي رجاء في
النجاة بعد ذلك؟!
ولو لم يكن في ترك الشحناء سوى صفاء الذهن، وحضور القلب، وقوة
العزم؛ لكفى، فكيف لو جمع مع ذلك أنواعًا من أمراض القلب، وخبث النفس
-والعياذ بالله-؟!
فينبغي للعاقل اللبيب أن يفتش في نفسه، ويعرف أسباب غلها
وشحنائها، ويسعى لعلاجها وشفائها.
فمن
أعظم تلك الأسباب:
أولاً:
الحسد:
وهو البغض والكراهية لما يراه من حُسن حال المحسود سواء في
دنياه أو دينه، وهو نوعان:
أحدهما: كراهة للنعمة مطلقـًا على المحسود، سواء أحصل للحاسد نظير
تلك النعمة أم لا، فهذا النوع مذموم مطلقـًا، وهو يستلزم تمني زوال النعمة،
فإن من كره النعمة على غيره تمنى زوالها، وإذا كان ذلك في الدِّين فهو
أشنع وأقبح، كحسد اليهود للنبي -صلى الله عليه وسلم-، قال -تعالى-: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) (النساء:54).
وكحسدهم للمؤمنين كما قال -تعالى-: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ
بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) (البقرة:109)، فبيَّن -عز وجل- أن سبب تمني اليهود لكفر
المسلمين إنما هو الحسد، وكذلك كل من يقع في قلبه بغض لمؤمن لأجل إيمانه،
أو تمني زوال طاعة عن عبد من العباد؛ فإنه يشارك اليهود في جنس ذلك
-والعياذ بالله-.
النوع الثاني من الحسد: ألا يتمنى زوال النعمة عن المحسود؛ ولكن يكره فضل
ذلك الشخص عليه، فيحب أن يكون مثل هذا الشخص أو أفضل منه، وقد يُسمَّى هذا
غبطة أو منافسة، وسماه النبي -صلى الله عليه وسلم- حسدًا كما في الحديث
المشهور: (لا حَسَدَ إِلا
فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ
آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ فَقَالَ:
لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلاَنٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا
يَعْمَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فَهْوَ يُهْلِكُهُ فِي
الْحَقِّ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلاَنٌ
فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ) (رواه البخاري).
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "فإن قيل: لمَ سُمِّي هذا حسدًا وهو إنما أحب أن
ينعم الله عليه؟ قيل: لأن مبدأ هذا كان نظره إلى إنعامه -عز وجل- على
الغير، وكراهته أن يكون أفضل منه، ولولا وجود ذلك الغير لم يحب ذلك، فلما
كان مبدأ ذلك كراهته أن يتفضل عليه غيره كان حسدًا، أما من أحب أن ينعم
الله عليه مع عدم التفاته إلى أحوال الناس فهذا ليس عنده من الحسد شيء،
وهذا أعلى المنازل، وبهذا أثنى الله -عز وجل- على الأنصار، فقال: (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) (الحشر:9)، أي: لا يجدون في صدورهم غيظـًا ولا حسدًًا لما
أوتي إخوانهم المهاجرين من السبق والفضل والتقدم" اهـ بتصرف من
أمراض القلوب وشفائها.
وقد روي أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- أخبر عن رجل أنه من
أهل الجنة، فلما سأله عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن حاله
وعمله الذي بلغ به تلك المنزلة؛ قال له الرجل: "مَا هُوَ إِلا مَا
رَأَيْتَ"، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي"، فَقَالَ:
"مَا هُوَ إِلا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لا أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلاَ أَحْسُدُ أَحَداً عَلَى خَيْرٍ
أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ"، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "هَذِهِ الَّتِي
بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لا نُطِيقُ".
فهذا الرجل كان سالمًا من كل أنواع الحسد، وأكثر الناس لا
يطيق ذلك، بل يشق عليهم تفضل غيرهم عليهم؛ فيتمنون أن يكون حالهم كغيرهم أو
أفضل منهم، وقد يتنافسون لأجل ذلك، فإن وظـَّفوا تلك المنافسة فيما يحبه
الله ويرضاه كان ذلك نافعًا لهم -وإن كان ذلك خلاف الأولى-، وإن وظـَّفوا
تلك المنافسة في مباحات الدنيا -فضلاً عن محرماتها- كان ذلك حسدًا مذمومًا.
وتأمل قوله: "غَيْرَ
أَنِّي لا أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا..."، فإنه لما تم تركه للحسد وإعراض قلبه بالكلية
عن حال الناس ومنافستهم؛ تمت أمانته ونصيحته للناس، فالحسد منافٍ للنصح
والأمانة؛ ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ
لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَوَادِّهِمْ
وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ
شَيْءٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (رواه مسلم)، فمن كمل تركه للحسد كمل نصحه وأمانته، وهذا من أعظم أسباب
المحبة والألفة، والضد يأتي بالضد.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وبهذا استحق أبو عبيدة -رضي الله عنه- أن يسميه
النبي -صلى الله عليه وسلم- أمين هذه الأمة؛ فإنه لم يكن عنده شيء من ذلك
البتة، والمؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمة على شيء مما اؤتمن عليه كان أحق
بالأمانة ممن يُخاف مزاحمته، ولهذا يؤتمن على النساء الخصيان، وعلى
الولاية الصغرى من يُعرف أنه لا يزاحم على الكبرى، وعلى المال من يُعرف أنه
ليس له غرض في أخذ شيء منه" اهـ بتصرف المصدر السابق.
وقال -رحمه الله-: "فالحاسد المُبغِض للنعمة على من أنعم الله
عليه بها ظالمٌ معتدٍ، أما الكاره لفضل غيره عليه المحب لمماثلته فهو منهي
عن ذلك إلا فيما يقربه إلى الله، وإعراض قلبه عن هذا بحيث لا ينظر إلى حال
الغير أفضل وأكمل" اهـ بتصرف المصدر السابق.
وقال -رحمه الله-: "الحسد مرض غالب لا يكاد يخلص منه إلا قليل من الناس، ولهذا قيل: ما خلا جسد من حسد، ولكن
اللئيم يبديه والكريم يخفيه، وقيل للحسن البصري: "أيحسد المؤمن؟"، فقال:
"ما أنساك إخوة يوسف، لا أبا لك؟! ولكن عمه في صدرك؛ فإنه لا يضرك ما لم
تعد به يدًا أو لسانـًا"، فمن وجد في نفسه حسدًا لغيره فعليه أن يكره ذلك
من نفسه، وأن يستعمل معه التقوى والصبر" اهـ بتصرف المصدر السابق.
وبالجملة فالحسد من أعظم أسباب العداوة والفرقة وضياع الدين،
كما في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (دَبَّ
إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ
الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ؛ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني)، فقرن -صلى الله عليه وسلم- بين الحسد والبغض، وفى
الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ
تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) (متفق عليه)، وقال -تعالى-
مخبرًا عن حال الأمم السابقة: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ
بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (الشورى:14).
وكثيرًا ما يكون سبب الحسد الحرص والطمع، أو طلب السمعة
والرياسة، أو الكبر والعلو، وغير ذلك من عوارض حب الدنيا، فأقصر طريق لعلاج
هذا المرض؛ معرفة قدر الدنيا، وسرعة زوالها، واضمحلال أمرها، والاعتبار
بذلك، قال -تعالى-: (مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ
وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى) (النساء:77)، وقال: (وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران:185)، وقال: (بَلْ
تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
(الأعلى:16-17)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا
فِيهَا إِلاَّ ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالاَهُ، أَوْ عَالِمًا، أَوْ
مُتَعَلِّمًا) (رواه الترمذي
وابن ماجه، وحسنه الألباني)، وقال: (وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا
يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ) (رواه مسلم)، والآثار في ذلك لا تكاد تحصى.
قال الإمام المقدسي -رحمه الله-: "ومنشأ جميع ذلك إنما هو حب الدنيا؛ فإن الدنيا هي
التي تضيق على المتزاحمين، أما الآخرة فلا ضيق فيها، بل ما عند الله من
نعيم الجنة والنظر إليه -عز وجل- ليس فيه مزاحمة، ولا يضيق بعض الناظرين
على بعض" اهـ بتصرف مختصر منهاج القاصدين.
ثانيًا:
الكبر:
قال الإمام المقدسي -رحمه الله-: "الكبر خُلق باطن، وهو رؤية النفس فوق الغير في
صفات الكمال؛ فيظهر عند ذلك على الجوارح أعمال هي ثمرة ذلك الخُلق، وبهذا
ينفصل الكبر عن العجب؛ فإن العجب لا يستدعي وجود غير المعجب، حتى لو قدر أن
يعيش إنسان وحده لكان يُتصور أن يكون معجبًا، ولا يتصور أن يكون متكبرًا
إلا أن يكون معه غيره.
وآفة الكبر عظيمة، وفيها يهلك خواص الناس قبل عوامهم، وقلما
ينفك عنه العُباد والزهاد والعلماء، وكيف لا تعظم فتنته وقد قال النبي -صلى
الله عليه وسلم-: (لاَ
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ
كِبْرٍ) (رواه مسلم)؟!" اهـ بتصرف المصدر السابق.
وإنما صار الكبر مانعًا من دخول الجنة؛ لأن حقيقته تكبُّر على
رب العباد -عز وجل- الذي جعل هذا المتكبر واحدًا من هؤلاء الناس الذين
يتكبر عليهم، والجميع عبيد له -عز وجل-، فمن تكبَّر على الناس فكأنه لا
يرضى لنفسه أن يكون أخًا لهؤلاء في مقام العبودية، بل يرى نفسه أهلاً لمزيد
خصوصية عن هؤلاء، وهذا هو عين الكبر؛ ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: (الْعِزُّ إِزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ
رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ) (رواه مسلم).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ النَّاسِ، يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْْءٍ مِنَ
الصِّغَارِ حَتَّى يَدْخُلُوا سِجْنًا فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ بُولَسُ،
فَتَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ
عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني)، لما رأوا أنفسهم أعظم وأعلى من عباد الله في
الدنيا جعلهم الله -تبارك وتعالى- في أحط وأسفل المنازل في الآخرة.
ولو لم يكن في الكبر سوى هذا لكفى، فكيف وهو يثمر أمراضًا
أخرى كلها تؤدي إلى المهالك والمعاداة والشحناء -والعياذ بالله-؟!
قال الإمام المقدسي -رحمه الله-: "وإنما صار الكبر حجابًا دون الجنة؛ لأنه مع قبحه
في نفسه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين، فلا يقدر صاحبه أن يحب
للمؤمنين ما يحب لنفسه، ولا يقدر على التواضع وترك الحقد والحسد والغضب،
ولا على كظم الغيظ وقبول النصح، ولا يسلم من الازدراء بالخلق واغتيابهم،
إلى غير ذلك من لوازمه؛ فما من خلق ذميم إلا وهو مضطر إليه" اهـ بتصرف
المصدر السابق.
وقال -رحمه الله-: "ومن شر أنواع الكبر ما يمنعه من استفادة
العلم وقبول الحق، كما قال -تعالى- عن فرعون وقومه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا
أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (النمل:14)، وقال -تعالى- عنهم أيضًا: (فَقَالُوا
أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا) (المؤمنون:47)، وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك وشرحه
فقال: (الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ
النَّاسِ) (رواه مسلم)،
فبَطَرُ الْحَقِّ: رده وتكذيبه، وعدم قبوله، وَغَمْطُ النَّاسِ: احتقارهم
واستصغارهم" اهـ بتصرف المصدر السابق.
فالكبر يعمي القلب والبصيرة، ويسلب صاحبه الصدق والعدل،
والمتكبر ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه ولو بالباطل، وتغضبه الكلمة التي
فيها ذمه ولو كانت حقـًّا، والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه، وتغضبه كلمة
الباطل له وعليه.
وأصل الكبر جهل العبد بنفسه، وجهله بربه -عز وجل-، فمتى عرف
العبد دناءة نفسه ونقصها، وكمال ربه وعظمته؛ سهل عليه التواضع جدًّا، بل
كان ذلك سجية له لا كلفة له فيها، فهذا أقصر الطرق لعلاج هذا المرض
واستئصاله.
قال الإمام المقدسي -رحمه الله-: "فإنه إذا عرف نفسه حق المعرفة علم كم هو ذليل،
ويكفيه أن ينظر في أصل وجوده من نطفة خرجت من مجرى البول، ثم من علقة، ثم
من مضغة، ثم صار شيئًا بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا، فكان قبل ذلك جمادًا
لا يسمع ولا يبصر ولا يحس، وأبوه الأول خلقه الله من تراب، وكان قبل ذلك
عدمًا محضًا، فمَن هذا بدايته فأي وجه لكبره وعلوه؟!
على أنه لو دام له الوجود كما يريد ويختار لكان لتكبره مساغ،
لكنه يضعف، ويمرض، ويعجز، وينسى، فبينما بنيانه قد تم إذ هو قد وهى
وتهدَّم، وبينما هو غني إذ هو فقير، وبينما هو يذكر الشيء ينساه، ويروم
الشيء فلا يدركه، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا.
هذا أوسط حاله، وذاك أوله، وأما آخره فالموت الذي يعيده
جمادًا كما كان، ثم يُلقى في التراب فيصير جيفة منتنة، وتبلى أعضاؤه، وتنخر
عظامه، ويأكل الدود أجزاءه، ويعود ترابًا يعمل منه الكيزان، ويعمر منه
البنيان، ثم بعد طول البلى تُجمع أجزاؤه المتفرقة، ويحضر القيامة على خوف
وشكٍّ من عاقبته، فمن هذا حاله كيف له أن يستعلي ويتكبر؟!
أما معرفته بربه فيكفيه أن ينظر في آثار قدرته، وعجائب صنعته،
فتلوح له العظمة، وتظهر له المعرفة، فهذا هو العلاج القالع لأصل الكبر" اهـ بتصرف
المصدر السابق.
ثالثـًا:
الجهل وقلة العلم:
فإن الإنسان قد تسوء أخلاقه ومعاملاته لا عن قصد ولا كبر
وحسد؛ بل بسبب قلة علمه، وجهله بحقوقه وواجباته، وما يلزمه في هذا الموقف
أو ذاك، فيقصر في حقوق الخلق، أو يُلزمهم بما ليس بواجب عليهم، أو يطالبهم
بما ليس بحقه ونحو ذلك، فينشأ عن ذلك أنواع من الخصومات والمشاحنات ما كان
يُستدرك بطلب العلم، فالعلم نور وبركة وعصمة، ولذلك قال -صلى الله عليه
وسلم-: (طَلَبُ الْعِلْمِ
فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) (رواه ابن
ماجه، وصححه الألباني).
ولَنِعْمَ ما قال الإمام مالك -رحمه
الله-: "إذا قل العلم ظهر الجفاء، وإذا
قلت الآثار انتشرت الأهواء".
فهذه إشارة إلى جذور الشحناء وأسبابها وطرق علاجها، نسأل الله
الكريم الرحيم أن يشفي قلوبنا، ويذهب وحر صدورنا، وأن يصلح ذات بيننا
ويتوب علينا، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.www.salafvoice.com
موقع صوت السلف