لا يكن همك ما يطلبه
كتبه / عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،
موقف الخطباء بإزاء مطالب المستمعين
متباينة ما بين
الانصياع التام إلى الإعراض التام ولكل منهما أضراره
ومخاطره، نعرض لها
في إيجاز ثم نُلقي الضوء على طريقة متوسطة بينهما.
فأما الذين يرفعون شعار ما يطلبه
المستمعون فيرون أن جمع
الناس على سماع الخطبة أو الدرس لكي ينتفعوا به
غرض أساسي للداعي، فلذلك
فإنهم يبذلون كل ما يمكن أن يؤدي إلى ذلك، وما
يطلبه المستمعون متنوع
ولا يخلو كثير منه من مفاسد ومن ذلك:
1-
الإسراف في سرد القصص مع العناية
بالجزئيات والتي تلجئ صاحبها إلى
كثيراً إلى الإسرائيليات في التفسير،
وإلى كتب السيرة والتاريخ
المتهالكة ، والمستمع من هذا النوع لا يحب من
الداعي أن يقطع عليه تسلسل
القصة بذكر فائدة أو عبرة ولا يقبل غالباً أن
تتحول قصص الصالحين إلى
دعوة إلى الاقتداء بهم، ولا قصص الذين ظلموا
أنفسهم إلى دعوة إلى
التفتيش في النفس عما يمكن أن يوجد فيها من أمراض،
وخلاصة الأمر أن هذا
النوع من المستمعين يريد من الداعي أن يتقمص دور منشد
الربابة في الأدب
الشعبي، وللأسف يتجاوب كثير من الدعاة مع هذا الطلب فيقع
أسيراً لهذا
الأسلوب الذي لا يكاد يحرك في المستمعين أي عمل بناء.
2- وأفحش من ذلك من يعمد إلى القصص
المتهالكة من أصلها لما
فيها من الإغراب، وهذه النوعية من طلبات المستمعين
ليست عديمة الفائدة
أو محدودة النفع فحسب، ولكنها كثيراً ما تحتوي على
مخالفات عقدية وشرعية
كقصة حمامة المسجد، وقصة الغرانيق، والقصة المطولة
لهاروت وماروت
وغيرها كثير.
3- ومما يلحق بهذا، الإسراف في
ذكر
القصص الواقعية وهي وسيلة من وسائل العظة والعبرة، ولكن الخطورة هنا
أن في
قصص القرآن والسنة يكون هنالك أصل للقصة من الوحي وهذا الأصل
يمثل مضماراً
للشارح والواعظ، ومع هذا انحرف من انحرف فكيف إذا كانت
القصة من أصلها من
نسج الواعظ لاسيما إن كان ممن يقعون تحت تأثير
الجمهور، فالجمهور يريد
القصة محبوكة ولا يريد من القاص أن يقفز فوق
التفاصيل مع أن هذا هو الذي
ينبغي توفيراً للوقت لاستنباط المواعظ
والدروس، وتتأكد أهمية القفز فوق
التفاصيل إذا كانت القصة تتعرض لحياة
المنغمسين في الشهوات، ولكن للأسف
فكثير ممن يعتمد هذا الأسلوب يسرف في
ذكر تفاصيل المنكرات إلى الدرجة التي
يُخشى معها أن تكون وسيلة لمعرفة
الكثيرين بهذه المنكرات ومن ثم سعيهم
لتجربتها.
4- وقريب من هذا من يرفع شعار "لا
حياء في الدين" وهذا
الشعار على إطلاقه هكذا يوهم معنى فاسداً، بل أثنت
عائشة -رضي الله
عنها- على نساء الأنصار اللاتي لم يمنعهن الحياء من
التفقه في الدين،
والفرق بين التعبيرين ظاهر، فالأول ينفي وجود الحياء
والثاني يبين أن
الحياء مع وجوده لم يكن مانعاً من التفقه في دين الله
تعالى، ووجود
الحياء يعني أن الملقي والمتلقي كلاهما سوف يلجئان إلى
الكناية والتورية
والإشارة إلا فيما لابد منه، ولذلك أعرض النبي –- عن تعليم من سألته عن كيفية التطهر من الحيض -لأنه بوسعها
أن تتعلم ذلك من النساء- فقال لها (سبحان الله تطهري) متفق عليه، فقامت عائشة رضي الله عنها بتعليمها.
وبعض من يرفع هذا الشعار -"لا حياء
في الدين"- يكثر من
عرض الموضوعات التي تحتاج إلى الحياء وهو يتناولها بلا
حياء، وازداد
الأمر سوءاً هذه الأيام بعرض هذه الأمور على شاشات الفضائيات
والمتحدث
لا يدري حال المستمعين، فربما كانوا على مقهى والغاديات
والرائحات
أمامهم، وربما كانوا مجموعة من الأصدقاء في زيارة مختلطة رجالاً
ونساء
-على ما جرت عليه عادة أهل هذا الزمان- فيأتي هذا البرنامج ليزيد
الطين
بلة، بل ولعل أخوة أشقاء شباباُ وفتيات يجلسون أمام الشاشة وغير ذلك
مما
يندى له الجبين، ومع هذا يبقى هذا طلباً ملحاً لعدد كبير من المستمعين
الذين
يبحثون عن الإثارة ولو في درس شرعي.
5- ومن
هذه الإثارة إلى إثارة أخرى،
وهي شهوة التشفي في الآخرين، وهي آفة تصيب
كثيراً من الناس فلا يكاد يلتقي
منهم اثنان إلا ويبحثان عن عدو مشترك
يجتمعان على افتراسه، ونتيجة لهذا
تنتشر مجالس الغيبة، ولكن يزداد الأمر
إثارة إذا كان الجمع كبيراً وكان
المتحدث بليغاً، وكلما كان الشخص
موضوع الجلسة مستأهلاً لما يقال فيه
وأكثر، ونحن لا نعني بذلك عدم تنبيه
الأمة إلى مظاهر أعداء دينها لها حتى
لا تنخدع بدعاوى السلام وزمالة
الأديان، ولكن الأمر يتجاوز ذلك غالباً إلى
نوع من تبرئة المتكلم
والمستمعين معه من أية مسئولية مع أن الله تعالى
يقول: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)(آل
عمران:
120)، وهذه التي لا يحب المستمعون أن يعرج الخطيب عليها مع أنها هي
التي
يجب أن تأخذ النصيب الأوفر، ثم أن الأمر يجر إلى تتبع أخبار الساسة
والفنانين
ولاعبي الكرة مما يستوي في علمها الداعي والمدعو وربما فاق فيها
المدعو
الداعيَ بمراحل، ولكنه يريد أن يسمعها في قالبها الخطابي الرنان
طالما
وجد الداعي الذي يلبي طلب المستمعين.
6- ولا
يمكننا أن نترك أصحاب اتجاه
"ما يطلبه المستمعون" دون أن نعرج على مسألة
الفكاهات والطرائف التي اعتاد
بعض الإخوة الأفاضل إطلاقها في أثناء
حفلات الأفراح وأشباهها، فقد كانت في
أول أمرها فقرات قصيرة لمواقف
طريفة صادقة من كتب الأدب أو التاريخ أو من
الواقع، ثم كان التنازل عن
شرط صدقها، والأخطر من هذا التنازل عن شرط عدم
مخالفتها للشرع، فكثير من
هذه الطرائف فيها على سبيل المثال أن أحد الحمقى
فهم آية كذا خطأ وهذا
مما لا ينبغي أن ينتشر على وجه التندر حيث يبقى في
مخيلة السامع ارتباط
هذه الآية بهذه الطرفة، وفيه تجرئة للناس على اختلاق
مثل هذه الطرائف،
بل إن ما يحكى من طرائف عن النحويين يصب هو الآخر في
خانة الأعداء الذين
يريدون أن ينفِّروا الناس عن لغة العرب لكي يبعدوهم عن
الإسلام.
وبعد هذه الجولة في أنواع الموضوعات
التي يطلبها
المستمعون والتي تجد من يستجيب لها من الدعاة، نشير إلى أن
المستمعين قد
يطلبون السجع المتكلف في بعض الأحيان فيتبارى بعض الخطباء في
إنشاء
أطول فقرة مسجوعة وهذا مما يجبر المتكلم على التكرار غير المفيد،
وربما
أوقعه في بعض المعاني غير السليمة ثم أن السامع يظل كاتماً أنفاسه
وهو
يتابع الجمل المسجوعة المتتالية دون أن يجد أي فرصة لكي يأخذ أي شيء
من
معانيها، ويقارب ذلك الأشعارُ الكثيرة المليئة بالألفاظ الغريبة فتكون
عالة
على الفكرة لا خادمة لها، وتساعد على تشتت ذهن السامع تشتتاً كبيراً
ومن
ذلك الكلام بالعامية لاسيما على المنبر بدعوى أن الناس لا يفهمون
العربية،
بينما يوجد كثير من الألفاظ الفصيحة التي يفهم العامة معناها،
ويوجد
كثير من الحيل التي تجعل الخطيب يوصل المعنى للسامع العامي وإن لم
يكن
قد علم معنى كل كلمة من مفردات كلامه.
وهذه
المعاني قد أشار إليها كثير من
دعاة الدعوة السلفية –بفضل الله تعالى-
فنبهوا خطباءهم على ألا يستجيبوا
لضغوط الجمهور وأن يحرصوا على تقديم
النافع الذي يرتقي بمستوى الفرد
والأمة، وكالعادة حصل انحراف في التطبيق
من بعض هؤلاء الخطباء فصار عند
إعداده لخطبة وكأنه سوف يحدث نفسه، فعلى
مستوى الموضوع تجد عنده قائمة
أولويات لا تتغير زماناً ومكاناً، وطريقة
العرض طريقة واحدة هي التي
دَرَسَ بها الموضوع ولو كان قد درس هذا
الموضوع في عدة مرات وببناء جزل،
فهو لا يفكر في عرض الموضوع إلا بهذه
الطريقة، وعلى مستوى الأسلوب تجده
يرى أن استخدام الشعر منقصة والجناس
عيب إلى آخر هذه الصور المعروفة وإن
كان هذا النموذج آخذ في التناقص
لصالح النموذج الآخر، ولأن التوسط في ذلك
هو الأفضل والأولى فإليك أخي
الكريم بعض النصائح التي تعين على الاقتراب
من هذا النمط الوسطي، مع
الأخذ في الاعتبار أن لكل شخص بصمته الشخصية التي
تختلف عن الآخر.
1- يجب على الداعي أن تكون له رؤية
شاملة عن دين الله عز
وجل تضم العقائد والعبادات والأخلاق والآداب
والمعاملات، وهذه الرؤية
يجب أن يحصلها من خلال دراسة منهجية تضمن عدم
الشطط والانحراف في فهم أي
جانب من جوانب الإسلام.
2- يجب على الداعي
أن يعرف الواقع
الذي يعيش فيه – دون الاستغراق في التفاصيل غير الهامة -
من أحوال أمة
الإسلام وأحوال مجتمعه، وما يشيع فيه من منكرات وما يوجد
فيه من معاني
الخير.
3- يقوم الداعي في كل
منبر من منابر
الدعوة - الخطبة، الدرس، الكلمة المكتوبة، بل عبر
الزيارات الاجتماعية
واللقاء العابر- بتكرار ما لديه من قضايا يريد
تأصيلها عبر أولويات عامة
تجعل العقيدة وأصول العبادات على رأس سلم
الأولويات، وكذلك النهي عن أصول
المنكرات والدعوة إلى العمل من أجل
الإسلام، وعبر أولويات خاصة تناسب
الشخص والمجموعة المخاطبة.
4- يجب أن يدرك الداعي أن الطريقة
التي درَسَ بها أي قضية
لاسيما قضايا الاعتقاد ليست دائماً هي الطريقة
المثلى لعرضها، فيمكن
عرضها في ثنايا قصة أو من خلال تفسير آية أو شرح
حديث.
5- يجب على الداعي أن يحاول قدر
الإمكان مخاطبة جميع من
أمامه على اختلاف أفهامهم وليحرص على أن يتكلم
بكلام – يرضي الخاصة ولا
يتعالى على العامة- وهو أمر صعب ولكنه يسير على
من يسره الله له، وفرق
بين من لا يضع هذا الأمر نصب عينه وبين من يضعه
ويحاول أن يقترب منه
شيئاً فشيئاً.
6- ومما ينبغي أن يحرص عليه
الداعي
قياس مدى استيعاب السامعين لكلامه وليستعن في هذا برأي إخوانه،
على ألا
يغتر بمن عادته المدح، ولا ينشغل كثيراً بمن عادته الذم.
7- دور الداعي يقارب دور مدرب
اللياقة البدنية في أنه
ينبغي أن يعطي جرعة أعلى من القدرة الحالية للمدعو
من ناحية عموم
الموضوع وجزالة الأسلوب على أن تكون الزيادة بمقدار يستوعبه
المدعو،
وذلك مع استمرار قياس قدرة الناس، وأظن أن عموم الناس لديهم قدرة
على
استقبال كثير من المعاني الشرعية بدرجة أعلى بكثير مما نتصور.
8- لا ينبغي أن يصدم الخطيب
السامعين في إعراضه عن موضوع
يراه السامعون واجب الوقت مهما رآه هو مكرراً
ومعاداً، فلا أقل من
التعريج عليه ومثال ذلك الأفراح والأعياد مع الأخذ في
الاعتبار أنه قد
يُقبل في درس مالا يقبل في آخر، وعلى أية حال فإن أمور
الشرع مترابطة
بدرجة لا تُعيي أي متكلم بأن يخرج من موضوع إلى آخر.
9- المحسنات البلاغية عامل أساسي في
تأثير الكلام في
السامع وإنما ننكر على من يستغرق فيها بحيث تشغله وتشغل
سامعه عن أي
فائدة أخرى في الكلام وعلى هذا فيجب أن يحرص الخطيب على وضوح
الفكرة
التي يريد أن يوصلها وعلى أن يكون ذلك من خلال نور الوحيين
الشريفين
الكتاب والسنة، وهذا لا يمنع من بعض المثيرات البلاغية وكلها
أساليب
واردة في القرآن والسنة، من استفهام يحرك به ذهن السامع أو من
مشاكلة
لفظية تستريح لها الأذن، وقد يحتاج الأمر -لاسيما إذا طال- إلى كسر
رتابة
النثر بشيء من الشعر شريطة أن يكون واضح المعنى وإلا فإنه يشتت
السامع
بدلاً من أن ينشطه، وفي الجملة يجب أن يعرف الداعي والخطيب أنه جاء
ليحدث
الناس ويفيدهم علماً وعاطفة، وأن دوره في أن يستعمل ما أوتي من
أدوات
في سبيل هذه الغاية النبيلة.