وقفات مع حج السلف
وقفات مع حج السلف
فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله الهبدان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدي الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فهذه وقفات أبعثها إليك معطرة بالأشواق محملة بالتحية، أزفها إليك من قلب قد أحب لك الخير بمناسبة قدوم ركن من أركان الإسلام العظام ألا وهو الحج إلى بيت الله الحرام أقدم لك هذه الوقفات وكلي رجاء أن تجد منك أذناً واعية وصدراً رحباً.
الوقفة الأولى: فضائل الحج:
لقد تعددت فضائل الحج وتنوعت فمن هذه الفضائل:
1/غفران الذنوب: ومن الذي لا يريد أن يغفر له ذنبه، ويستر له عيبه، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من حج ولم يرفث ولم يفسق غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه الترمذي وفي لفظ (رجع كيوم ولدته أمه) رواه البخاري ومسلم.
وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة، وأما وقوفك بعرفة، فإن الله عز جل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثا غبراً من كل فج عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رحل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت البيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك[1]
2/ أن الحج يهدم ما قبله من الذنوب: جاء عمرو بن العاص ليعلن إسلامه فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبسط يمينك لأبايعك، فبسط الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقبضها عمرو، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لك يا عمرو؟ قال: أردت أن أشترط، قال، تشترط ما ذا؟ قال: أن يغفر لي، قال: (أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)وذهب ابن المنذر وجماعة من أهل العلم إلى أن الحج المبرور يكفر الذنوب لعموم النصوص وهو قول قوي جداً والله أعلم.
3/أن الحج والعمرة سببان مانعان بإذن الله من الفقر والذنوب: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة) رواه الترمذي وغيره.
4/أن الحج سبب من أسباب دخول الجنة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) رواه البخاري، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وليس للحج المبرور ثواب دون الجنة) رواه النسائي.
5/ أن الحج سبب من أسباب النجاة من النار، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول(ما أراد هؤلاء)
6/ أن الحج من أفضل الأعمال: جاء في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أفضل الأعمال إيمان بالله ورسوله ثم جهاد في سبيل الله ثم حج مبرور)
الوقفة الثانية: متابعة السلف بين الحج والعمرة:
إن المرء ليعجب أشد العجب من حرص السلف على عدم تفويت حج بيت الله الحرام في سنة من السنين، وكيف يفوت ذلك وهو يعلم عظيم الأجر والجزاء لمن حج البيت الحرام فهذا عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يقول عنه تلميذه نافع: سافرت معه بضعاً وثلاثين حجة وعمرة[2]
وهذا الحسن بن علي - رضي الله عنه - حج خمس عشرة مرة [3]
ويقول سعيد بن المسيب - رحمه الله - حججت أربعين حجة [4]
وروى سليمان بن أيوب: سمعت سفيان بن عيينة يقول: شهدت ثمانين موقفا[5]
ولو ذهبنا نستقرأ سيرهم في ذلك لطال المقام فأين أولئك المثبطون عن أداء هذه الشعيرة ونبينا - صلى الله عليه وسلم - يقول: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد) ويقول - صلى الله عليه وسلم - (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)
الوقفة الثالثة: حالهم في أدائهم للحج:
إن المتأمل لحال الحج في هذا الزمان ليصدق عليه إلا من رحم الله أنه حج الأبدان لا حج القلوب حركات وتنقلات وتمتمات يفعلها الإنسان بلا شعور ولا إحساس، يذهب الإنسان ويعود بالنفس التي ذهب بها لم يتغير منه شيء، وكأن شيئاً لم يكن، قال رجل لابن عمر: ما أكثر الحجاج؟ فقال ابن عمر: ما أقلهم، ثم رأى رجلاً على بعير على رجل رث، خطامه حبل فقال: لعل هذا، وقال شريح: الحاج قليل والركبان كثير، ما أكثر من يعمل الخير ولكن ما أقل الذين يريدون وجهه [6]
إذا كان هذا الكلام يقال في خير القرون وأزكاها وأفضلها فما يقال في زماننا والله المستعان، فكم من الأوقات التي تذهب بالقيل والقال، وكم من سقطات اللسان التي يتفوه بها كثير من النساء والرجال، وكم من الأفعال التي ترتكب وهي تغضب العزيز المتعال، كم من أناس رأيناهم وهم يرتكبون المعاصي والآثام في أشرف المواقف والأيام، كم من الناس من يتتبع عورات الناس ومحارمهم، وكم من الناس تسيء أخلاقهم مع الزحام فلا تراه إلا فاغراً فاه بالعويل، متوعداً من حوله بالويل والثبور، وكم وكم فيا حسرة على العباد، ولكن لو سألنا التاريخ واستنطقناه أن يحدثنا عن أسلافنا الأوائل وحالهم في أدائهم لهذا المنسك العظيم لأخذتك الدهشة والاستغراب، وكان أمرهم محل العجب العجاب كأنك تعيش في عالم آخر، تعيش في عالم كله روحانية، إنهم يعيشون وقلوبهم موقنة بأن عين الله تراهم، قال الجريري: أحرم أنس بن مالك من ذات عرق، فما سمعناه متكلماً إلا بذكر الله حتى رحل، قال له يا ابن أخي هذا الإحرام [7]
وقال سفيان بن عيينة - رحمه الله - حج علي بن الحسين - رحمه الله - فلما أحرم واستوت به راحلته اصفر لونه وارتعد، ولم يستطع أن يلبي فقيل له: ما لك لا تلبي؟ فقال أخشى أن يقال لي لا لبيك ولا سعديك، فلما لبى غشي عليه [8]
وقال منصور: كان شريح إذا أحرم كأنه حية صماء [9] وقال شجاع بن الوليد: كنت أحج مع سفيان، فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذاهباً راجعاً [10] وقال ضمرة بن ربيعة: حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة، فما رأيته مضطجعاً في المحمل في ليل ولا نهار قط، كان يصلي، فإذا غليه النوم استند إلى القتب[11] وحج مسروق بن الأجدع فلم ينم إلا ساجداً حتى رجع[12]
وهذا بكر بن عبد الله المزني الإمام القدوة قال ابنه: سمعت إنساناً يحدث عن أبي أنه كان واقفاً بعرفة، فرفع رأسه فقال: لولا أني فيهم لقلت قد غفر لهم.
قال الذهبي: كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها[13] وقال أبو الفرج الاسفراييني: كان الخطيب البغدادي معنا في الحج، فكان يختم كل يوم ختمة قراءة ترتيل، ثم يجتمع الناس عليه وهو راكب يقولون حدثنا، فيحدثهم[14]
هكذا كانوا يشعرون حقيقة العبادة، وهكذا كانت تأثر فيهم لقد وصلت هذه العبادة إلى سويداء قلوبهم فجعلتهم مرهفي الإحساس، فسلام على تلك الأرواح ورحمة الله على تلك النفوس ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل:
سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب
----------------------------------------
[1] رواة الطبراني في الكبير وحسنة الألبناني.
[2] السير 5/97.
[3] السير 3/ 253
[4] السير 4/ 222
[5] السير 8 /494
[6] لطائف المعارف ص 276
[7] طبقات ابن سعد 7/ 22
[8] انظر القِرى لقاصد أم القرى للمحب الطبري، والسير 4/386 (1) السير 4/100
[10] السير 7/229
[11] السير 7 / 119
[12] السير 4/63
[13] السير 2/ 532
[14] السير 18/279-280