احذروا السهر في الإجازة فضيلة الشيخ/ سلمان بن يحي المالكي
إن مننَ الله تعالى على عباده لا تُحصى، ونعمَه عليهم لا تستقصى، ومن تلك النعم والمنن أن جعل النوم لهم سُباتًا، وجعل الليل خير سكنٍ ولباس (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا) ليلٌ تهدأ به الأنفاس، وتسكن فيه الأعضاء والحواس، وتحصل فيه الراحة والإيناس، جعله الله برحمته وفضله وقتَ منامٍ ودعةٍ وإجمام وهدوء عام (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
وقد كان الليل في زمن مضى ميدانَ سَبْق ومطيةَ مجدٍ ومضمارَ صدقٍ وجد، لا ترى فيه إلا مصليًا أو باكيًا أو تاليًا أو داعيًا، أما اليوم فقد أصبح الليل لدى كثير من الناس لحظاتُ طيش وضلالُ عيش، وصار السهرُ اليوم في الأعم الأغلب منبعًا للمعار، ومجمعًا للأخطار، وطريقًا للمهالك والمضار، ومسرحًا للمواد المتلفة والبرامجِ المحرمة، سهرٌ على الجيَف، وسمرٌ على المعاطب والتلف، سهرٌ دخيل وغريب، وسمر مخيف مريب، مرتع لكل فاسق وموبوء، ومجلبةٌ لكل شر وسوء، وفي بدايات رمضان ولياليه الكرام يُصبح السهر مشكلةً ومعضلة، وآفةً مستشريةً مضللة، يلغي أكثرُ السمار فيها الوجود، ويهجرون الرقود، وما علموا أن هذه الليالي ما هي إلا طيف وضيف، أيامٌ ثم تنتهي، وليالٍ ثم تنقضي، فطوبى لعبد جعل من لياليه عِظةً رادعةً وذكرى وازعة، تكُفه عن قضاءِ ليله في معصيةِ الخالق، وقتلِ ساعاته عندَ هدّامة الفضائل ومفسدةِ الأجيال والأسرِ والعوائل، وطوبى لعبد زمَّ نفسه عن غيها، وقضى وقته فيما فيه نفعُها، بين حلقات قرآنية، أو دروس علمية، أو دورات مهنية، وتنميةِ قدراتٍ فكرية وعقلية أو فسحةٍ مباحة تقية نقية.
إن سهر الليل إلى أسحاره، ومسامرته إلى إدباره، ومدافعةِ المرء النومَ عند الحاجةِ إليه، وتمنّعه منه عند هجومه عليه، ومغالبتِه إغفاءاتِ عينيه بالتصبر والتجلد أو باستخدام منبهاتٍ محرمة أو تعاطي حبوب مسهِّرة يورث آفات عظيمة وأخطارًا جسيمة، وينطوي على أضرار صحية واضطرابات نفسية وعقلية؛ من سوءِ مزاج الساهر ويبسه، وانحراف قلبه ونفسه، وجفاف رطوبات جسمه، ويصبح الساهر عديمَ الحماسة، منهوكَ القُوى، كسولاً خمولاً، ذا نفس كالَّة مالةٍ؛ لا يستطيع معها النهوضَ بعبء، ولا الاضطلاع بواجب، ولا القيامَ بتكليف، وهو أيضًا سببٌ رئيس لكثير من الجرائم الأخلاقية والمشاكل الاجتماعية والحوادثِ المرورية والزعازع الأمنية.
وتأمل أخي الكريم بيتَ النبوة ومنهاجَ الرسالة بيتُ محمد صلى الله عليه وسلم كيف كان هديه صلى الله عليه وسلم في السهر والنوم؛ تقول عائشة (رضي الله عنها): (ما نام رسول الله قبل العشاء ولا سمر بعده) [أخرجه ابن ماجة]، ويقول عروة بن الزبير: (ما رأيت رسول الله راقدًا قط قبلها ولا متحدثًا بعدها، إما مصليًا فيغنم أو راقدًا فيسلم) [أخرجه عبد الرزاق]، وعن الأسود قال: سألت عائشة (رضي الله عنها): كيف كانت صلاة النبي؟ قالت: (كان ينام أول الليل ويقوم آخره) [متفق عليه]، ويقول عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما): بتُّ عند خالتي ميمونة زوج النبي فاضطجعت في عُرض الوسادة، واضطجع رسول الله وأهله في طولها، فنام رسول الله حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله، فجلس يمسح النوم عن وجهه بيديه، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شنّ معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه، ثم قام يصلي [متفق عليه]، هكذا كان ليله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فأين الاهتداء والاقتداء؟
ولقد كان عليه الصلاة والسلام يذم السهر ويحذر منه ويزجر عنه؛ فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: (كان رسول الله يجدب -أي: يذم ويعيب ويحذر- لنا السمر بعد العشاء) [أخرجه أحمد وغيره]، وروى الإمام أحمد أيضًا في مسنده عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: (لا سمر إلا لأحد رجلين: لمصلٍ أو مسافر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إياك والسمر بعد هدأة الرجل)، وفي رواية:(بعد هدأة الليل، فإنكم لا تدرون ما يأتي الله في خلقه) [أخرجه الحاكم وغيره]، وعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- أن رسول الله كان يستحب أن يؤخر العشاء، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وقد كان رسول الله يسمر أحيانًا في بعض مصالح المسلمين، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كان رسول الله يسمر عند أبي بكر الليلة في الأمر من أمور المسلمين وأنا معه) [أخرجه أحمد والترمذي].
وخلاصة القول: كل سهر أدى إلى تضييعِ واجبٍ شرعي فإنه يكون سهرًا محرمًا، حتى ولو كان في طاعة وعبادة ومطالعة واستفادة، وكل سهر أدى إلى الوقوع في محرم فهو سهر محرم، والسهر في طاعة الله إذا لم يترتب عليه ضياع واجب أو فوات مصلحة شرعية أعلى وأرجح منه فإنه سهر محمود؛ لأن كثيرًا من الناس استمروا على السهر فأدى بأكثرهم إلى تضييع صلاة الفجر حتى خروجها عن وقتها، وصار الذين يشهدونها في جماعة المسلمين في المساجد أفرادًا معدودين محدودين، وأصبح هذا السهر أمرًا عاديًا وطبيعيًا لا تنكره أكثر القلوب مع أنه قال: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما من الرغائب لأتوهما ولو حبوًا).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.