من مآثر العلامة الشيخ محمد بن إسماعيل المقدَّم
الحمد لله الذي أنشأ فأحسن الإنشاء، وقدم وأخر كما شاء، واختار من العالم الإنسي المرسلين والأنبياء، ثم ورثتهم الصالحين والعلماء، ثم أجزل لبعضهم من الفضل العطاء، وصلى الله على محمد أشرف راكب نزل البيداء، وعلى أصحابه الذين نالوا بصحبته العلاء، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى أن يعيد الناقض البناء ،وسلم تسليما ً كثيراً (1).
(اعلموا إخواني - وفقكم الله - أن تراجم الرجال من أهم أبواب العلم حيث بها تتسق العروة ويؤتى بالمفقود من حلق اتصال سلسلة الخلف بالسلف وتتأتى الأسوة بالمشاهدة الحسية أو المعنوية ثم تتأتى التربية على أثر ذلك وعلى منوال ذاك فتخرج الأجيال المنشودة التي بها ينتصر المسلمون حيث إن القراءة عن الشجعان تورث الشجاعة وعن المتقين تورث التقوى وتأسي الرجل بغيره أحرى أن يتشكل على شاكلته ويعمل على نسقه، ويقرر هذا الكلام ما أورده الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه (الأذكياء) حين ذكر في المقدمة دواعي تصنيفه لمثل هذا الكتاب فقال: وفي ذلك ثلاثة أغراض:
أحدها: معرفة أخبارهم بذكر أحوالهم- قلت: يعني السلف -، والثاني: تلقيح لباب السامعين إذا كان فيهم نوع استعداد لنيل تلك المرتبة وقد ثبت أن رؤية العاقل ومخالطته تفيد ذا اللب فسماع أخباره تقوم مقام رؤيته كما قال الرضي:
فاتني أن أرى الديار بطرفي ............. فلعلي أعي الديار بسمعي
وذكر عن المأمون قوله لإبراهيم: لا شيء أطيب من النظر في عقول الرجال، قال: والثالث: تأديب المعجب برأيه إذا سمع أخبار من تعسر عليه لحاقه" أ.هـ ) (2)
وهذه نبذه عن الشيخ العلامة بقية السلف أبي الفرج محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدَّم حرس الله مهجته
وهي بقلم فضيلة الشيخ أبي محمد رضا بن أحمد صمدي حفظه الله
( مقتبس من " الإشهار لما عند علماء السنة ودعاتها في مصر من مآثر وأخبار ... " )
: (( الإسكندرية .. الثغر المصري العتيد ... فيها حدث السِّلَفي المحدث الشهير ، وفيها سجن شيخ الإسلام ابن تيمية ثم خرج ومكث فيها برهة يعلم الناس ...
فكأن بركات العلم السلفي تواصل فيها حتى أينع في عصر مشايخ أهل السنة في عصرنا الحاضر ، بريادة العلامة الأجل الفقيه المربي المفكر الداعية القدوة بقية السلف الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم .. حفظه الله .
وغالب مشايخ الثغر من كبار علماء المصر ودعاتها الذين لهم أثر بارز في الصحوة المباركة في مصر على وجه العموم ، وفي الإسكندرية على وجه الخصوص ، حتى غدا الثغر يعرف بأنه مهد المدرسة السلفية ...
ولشهرتها وكثرة نشاطتها وكثافته اتهموا المدرسة السلفية في الإسكندرية بأنها تحتكر المنهج ، وهذا لعمرالله ليس بصحيح ، غاية ما هناك أن المدرسة السلفية في الإسكندرية عملت على نشر المنهج السلفي بطريقة منظمة ، حتى غدا العمل الدعوي عندهم ذو آلية ونظام صارم .. حتى كتب الله لهم القبول في جميع أرجاء القطر المصري ، وشاع ذكرهم في كل أنحاء العالم ..
---------------------------
وممن كان له الصدارة في قيادة العلم الدعوي في الثغر السكندري الشيخ الأجل العلامة الفقيه المفتي الطبيب محمد بن إسماعيل المقدم ...
درس الطب في جامعة الإسكندرية في أوائل السبعينات من القرن الميلادي المنصرم ، وهو وغالب قادة العمل الإسلامي السلفي من خريجي جامعة الإسكندرية ، وغالبهم أطباء ومهندسون .
وفي أثناء دراسته في الجامعة كون مع زملائه ورفقاء دعوته فريقا للدعوة إلى منهج أهل السنة والجماعة وكان الشيخ محمد بن إسماعيل هو الذي يصنف الرسائل التي تنشر بين شباب الجامعة ، فمن أول ما نشر وهو في مقتبل حياته الدعوية : تحريم مصافحة المرأة الأجنبية ، وتحريم حلق اللحية ، وغيرها من الرسائل الصغيرة ، وكان الشيخ أحمد فريد صنوه يعنى بتأليف كتب الرقائق ... وكانت هذه الكتب تطبع وتوزع على شباب الجامعة .
تكونت نواة الدعاة السلفيين في الإسكندرية إبان تخرج هؤلاء الشباب ، حيث عمل الشيخ محمد إسماعيل على نشر الدعوة السلفية في كل أنحاء القطر المصري ، وبخاصة في القاهرة العاصمة ، فكان ينتقل إلى مصر كل أسبوع لإلقاء درس في منطقة الطالبية حيث وجد أول تجمع سلفي واضح المعالم في القاهرة إبان فترة أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات ...
وكانت جهود الشيخ محمد إسماعيل حفظه مركزة على الدروس ذات البعد الحضاري والاجتماعي ، مع اهتمامه بقضية المنهج ... أعني المنهج السلفي ..
فولدت أول نواة لمعهد سلفي لتخريج الدعاة في مدينة الإسكندرية ، وابتدأت الدروس في كل العلوم الشرعية ، وتخرج دفعات من الدعاة والشباب العامل الذي تلقى دراسات مكثفة عن المنهج وعن العمل الدعوي ، ومع تخرج الدفعة الأولى اتجه العمل الجماعي لدعاة الإسكدرية نحو مزيد من التنظيم والاتساع ..
بدأ العمل الدعوي السلفي يتوغل في الجامعات حتى احتل مكانة مرموقة ، وصار للسلفين وجود واضح ينافس وجود الجماعات الأخرى العاملة ...
صارت المدرسة السلفية تصدر دعاتها إلى كل أقاليم القطر المصري ، وصارت تتابع الدعوات السلفية في المناطق الأخرى من القطر المصري ... وبفضل التواجد السلفي المكثف للمدرسة السلفية في الإسكندرية ترسخ المنهج السلفي في المجتمع المصري في كثير من الأقاليم ، وصارت الدعوة السلفية تمثل العمل الإسلامي في كثير من المجالات وبخاصة في المجال العلمي الذي تفوق فيه السلفيون على الجماعات الأخرى حتى أقرت الجماعات بأن أهم ما يميز السلفيين هو اهتمامهم بالعلم الشرعي ... فكان مكسبا في حدث ذاته ...
-----------------------------------------
أخلاق الشيخ العلامة محمد بن إسماعيل وسمته وديانته ...
------------------------------
عرف عن الشيخ حفظه الله أنه من أعلى الناس خلقا وأدبا في علماء العصر ودعاته ، حتى إن كلمة الجماعات الإسلامية في مصر اتفقت على وصفه بهذا اللفظ ، ولا يعرف أحد من الجماعات الإسلامية التي تخالف الشيخ تكن له أي بغض أو كراهية أو تحفظ ، بل تعتبره رجلا محل إجماع في الصحوة ... مثله مثل بعض الأعلام في الجماعات الأخرى ...
وقد عايشت الشيخ ليلة مع بعض الأخوة في بيته تسمح لي أن أحكي ما اشتهر بين الناس بالسند العالي وبالمشاهدة لا بالسماع ....
أما مكتبته فتشغل جزءا كبيرا من شقته ، والتي كانت في يوم من الأيام ضيقة جدا ، لا تسعه ولا تسع أسرته ولا مكتبته المعامرة ، حتى وسع الله عليه وحصل على شقة أوسع وسعت مكتبته ، ومع ذلك فإن الشقة ازدحمت بالكتب والأبحاث التي يؤلفها الشيخ ...
وكان هذا اللقاء في أواسط الثمانينات من القرن الماضي ...
حضرنا درسًا للشيخ في مسجد أبي حنيفة في عشية ليلة شاتية من ليالي الإسكندرية ، ثم استضافنا الشيخ في بيته ، وكان معنا شيخنا الحبيب القريب عبد الفتاح الزيني ( وكان هو أمير الركب ) والشيخ محمد الكردي ، الداعية الهصور والمجاهد الجسور ، والأخ الحبيب مجدي حسن الذي كان من أوائل المعاصرين لمشايخ الجماعات الإسلامية ... وكان أكبرنا سنا ...
نزلنا على بيت الشيخ فقدم لنا العشاء ، وأبى على أي واحد منا أن يحمل أي شيء من الطعام ، حتى إنه دخل ومعه الصحون أكثر من مرة فقمنا احتراما له نساعده فأمرنا أمرا أن نجلس وألا نتحرك من أماكننا ...
من معالي أخلاق هذا الداعية أنه عقد دروسا منهجية حول قضية الجهاد ، تطرق فيها لتجربة الجماعات الجهادية في مصر ، وكان قد ألقى تلك الدروس على مدار اثني عشر أسبوعا في قوت كانت الجماعات الجهادية تعيش عصر هدنة مع السلطة ، فلما اشتدت الأزمة على جماعات الجهاد طلب بعض الدعاة من الشيخ أن يعيد تدريس تلك المادة المنهجية ، فرفض الشيخ احتراما لحال الأخوة من جماعات الجهاد وما هم فيه من محنة ... وهذا يعكس الرؤية الشاملة المشفقة لهذا الداعية ، وهذه من درر ما تعلمت من الدعاة ، ونفعتني في المعيارية الولائية التي بها أزن مواقفي مع الجماعات الإسلامية ...
أما ورع الشيخ وعبادته فقد طبقت الآفاق ، ولم يتسن لي شرف الصلاة وراءه في أيام رمضان ولكن حدثني الثقات من طلبة العلم من تلامذة الشيخ أنه كان يصلي التراويح بعد صلاة العشاء وحتى الساعة الثانية ليلا ،وكان يطيل السجود والركوع جدا ...
والذي يحضر محاضرات هذا الشيخ ويتعرف على المشايخ الذين عرفوه يعرف قدر هذا الرجل ، فما رأيت الدعاة والمشايخ من أهل السنة يبجلون ويحترمون أحدا مثل الشيخ محمد إسماعيل ، فما أن يرد ذكره في مجلس إلا ويتسارع الناس في مدحه والثناء على إنصافه وهدوئه وعقله ...
سمعت هذا من الشيخ فريد هنداوي الفقيه وسمعته من الشيخ ياسر برهامي ( وتأتي ترجمته ) والشيخ سعيد عبد العظيم ، والشيخ سيد حسين ، ( تأتي ترجمته إن شاء الله ) ...
ومما تميز به الشيخ كثرة مؤلفاته المتخصصة ، فله موسوعة : عودة الحجاب التي أرخ فيها للعلمانية ، وللصراع بين الإسلاميين والعلمانيين ، متمثلا في الحجاب ، والعجيب أن الشيخ محمد بن إسماعيل عني كثيرا بتأريخ صراع الصحوة مع تحديات المجتمع العلماني ، فله كتاب : تحريم حلق اللحية ، وكتاب : تحريم مصافحة المرأة الأجنبية ، وله : الصلاة لماذا .. وله : النصيحة في الأذكار الصحيحة ... ولو تأملنا في هذه المصنفات لوجدنا هي العلامة المميز لشباب الصحوة ، الحجاب ، اللحية ، عدم مصافحة المرأة الأجنبية ( منع الاختلاط ) الصلاة ، الذكر ...
ثم كان من أواخر مؤلفاته : حرمة أهل العلم ، لما رأى تطاول الأغيلمة على علماء الأمة ...
ومن معاركه الشهيرة التي سطرها التاريخ مجدا للصحوة الإسلامية معركته مع أذناب العلمانية من أشباه العلماء ، وذلك في معركة النقاب الشهيرة مع الدعي الجهول منصور إسماعيل ( أظن اسمه كذلك وإلا فالوهم مني ) ، حيث أيد هذا الدعي شيخ الأزهر سيد طنطاوي ، فانبرى الشيخ محمد إسماعيل يقرر المسألة لا تزحزح عن رأي علماء الصحوة المشهور بوجوب لبس النقاب للمرأة في هذا العصر ، فألف : بل النقاب واجب ... حتى لا تروج مقولة الدعي : بتحريم النقاب ... فكتب الله لدعوته القبول وانتشر النقاب في مصر .. وذلك بفضل الله ثم بفضل كتابه الذي كان بمثابة الحصن الحصين والمرجعية العلمية المرموقة لجيل الصحوة في قضية النقاب التي تمثل رمز الالتزام بالنسبة لفتيات الصحوة فلله دره ... اشتهر الشيخ محمد إسماعيل بتناوله لكل قضايا العصر ، فما من قضية تشغل الرأي العام إلا ويفرد لها محاضرة يتناول فيها القضية من الناحية الإخبارية تحليلا وشرحا ، ثم يتعرض لحكم الشرع إن وجد في القضية وعلاقة الصحوة بهذه القضية ، حتى بلغت شرائط دروسه التي تتناول كل قضايا العصر مئات بل أظنها جاوزت الألف بمراحل ...
أما دروسه في الفقه فقد كان بدأ في شرح منار السبيل منذ سنين عديدة ، وأظنه قارب على الانتهاء منه الآن ..
لقد كانت دعوة الشيخ وعمله من النوع الصعب الشاق ، البطئ في خطواته ، ولكنه من النوع الراسخ الذي بقي أثره وطال واتسع حتى بلغ بلاد العالم ...
وما من مركز إسلامي في أمريكا وأوروبا ، وما من طالب علم جاد في بحثه إلا ويعرف هذا الشيخ بكتبه وبحوثه ... ولو قدر لطلبة العلم وشباب الصحوة جميعا أن يلتقوا به فإنهم سيجدونه الرجل المناسب ليكون على رأس مجلس الحكماء ... أنا أسميه حكيم الأمة ... بل هو بحق : إمام من أئمة السنة في هذا الزمان ... )) اهـ
--------------------------------
الهامش (1): من كتاب ((مناقب الإمام أحمد)) للإمام ابن الجوزيرحمه الله.
الهامش (2): من كلام الشيخ سمير مصطفى حفظه الله.