الشرور الأربعة المذكورة في سورة الفلق .. وكيف عالجها الإسلام؟
إبراهيم عطية السعودي
المقدمة:
سورة الفلق سورة لم يُرَ مثلها كما عبر عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، هي والسورة التي تليها (سورة الناس)، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَال:َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ أَرَ أَوْ لَمْ يُرَ مِثْلَهُنَّ يَعْنِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ " [1] ، وحيث مدحها عليه السلام بهذه الكلمات؛ فمعنى ذلك أننا أمام كنوز ضخمة، وذخائر حية، وأسلحة قوية في مواجهة شرور الحياة ومصاعبها وشدائدها، والكائدين فيها، والماكرين والحاسدين، والسحرة المشعوذين الدجالين، يعني ذلك: أننا أمام أخطار كبيرة تؤثر في مسيرة الحياة، وتنعكس على الإنسان حيث تؤدي هذه الشرور التي ذُكرت في السورة الكريمة إلى الوفاة في بعض الأحيان، والجنون وفقدان الذاكرة وحالات صرع في أحيانٍ أخرى، فهي وأختها(سورة الناس) آيات بينات تذكر الداء والدواء.
وكان عليه الصلاة والسلام يوليهما عناية خاصة؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ، فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا " [2] ، هذه السورة والتي بعدها توجيه من الله سبحانه وتعالى لنبيه عليه السلام ابتداء، وللمؤمنين من بعده جميعاً, للعياذ بكنفه, واللياذ بحماه, من كل مَخُوْفٍ: خَافٍ وظَاهِر, مجهول ومعلوم, على وجه الإجمال وعلى وجه التفصيل.
وكأنما يفتح الله سبحانه لهم حماه, ويبسط لهم كنفه, ويقول لهم -في مودة وعطف- : تعالوا إلى هنا.. تعالوا إلى الحمى.. تعالوا إلى مأمنكم الذي تطمئنون فيه.. تعالوا فأنا أعلم أنكم ضعاف، وأن لكم أعداء، وأن حولكم مخاوف وهنا.. هنا الأمن والطمأنينة والسلام.. [3] .
والملاحِظ المتأمِل والمتمعِن في السورة الكريمة يجد أنها تعالج شروراً خفية غير ظاهرة، وتأثيراتها تظهر على المصاب دون أن تعرف من قام بها في كثير من الأحيان، وقد تتشاجر مع أحد الناس -لا سمح الله- فتراه ويراك، وتشتكيه إلى المحاكم، ويؤتى بالشهود، أما في هذه الشرور المذكورة فلا يَرى الفاعلَ إلاّ الله تعالى، أو إذا أخبر صاحبها بارتكاب جريمته، وقليلاً جداً ما يحدث ذلك؛ ولذلك جاء الأمر الرباني يخص هذه الشرور بالذكر من بين كثرة هائلة من الأخطار والآفات المحدقة بالإنسان، وجاء الأمر الرباني كذلك بطلب الغوث والمعونة والاستجارة والاستعاذة بالله سبحانه من كل الشرور بشكل عام، ومن هذه الشرور المذكورة بشكل خاص..
وإذا كان القرآن الكريم ذكرها مجملة من غير تفصيل، فقد تكفلت السنة المطهرة -وأتباعها من صحابة أجلاء، وتابعين كرام وعلماء جهابذة- ببيان كل شر من هذه الشرور، معنىً، وخطورةً، وتحذيراً، وعلاجاً.. وما أحوجنا في هذا الزمان الذي كثرت فيه الشرور وتنوعت، وتعددت أساليب الإيذاء واختلفت، وتطورت التقنيات ووسائل التخريب والقتل، وظهرت فنون الجريمة وانتشرت.. أقول: ما أشد حاجتنا إلى مولانا يحوطنا برعايته، ويكلؤنا بحفظه، ويجيرنا من كل سوء وشر، ويبعد عنا كيد الكائدين، وعيون الحاسدين، وشعوذة المشعوذين، وغدر الغادرين، { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف:64] ، { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } [الفلق:1] .
لا بد من الصراحة في إعلان الحقيقة الكبرى، وهي أن الإنسان مخلوق ضعيف، مفتقر إلى الله سبحانه في كل أحواله، يقول خالقنا سبحانه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [فاطر:15] ؛ ولذلك دفعه خوفه من الأشياء، وخشيته من الأخطار، إلى التعوذ والاستعانة بالجن، والسحر، والأصنام، والأنداد والشركاء، ويظن أنّ هذه الأشياء قادرة على حمايته، وتوفير الأمن والطمأنينة له، وهو واهم في ذلك؛ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [الحج:73] ، والحقيقة الكبرى التي طلبها رب الفلق من نبيه عليه السلام أن يعلنها على الملأ، ويقولها بملء فيه أنه: إذا كنتم أيها الناس.. أيها الكفار.. أيها المشركون.. يا ضعاف الإيمان! تستعيذون بالشركاء وبالأنداد، وبالسحرة والكهنة والجن وما أشبهه، فإنني { أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } [الفلق:1] ، والاستعاذة معناها -كما جاء في لسان العرب-: (عاذ به يَعُوذُ عَوْذاً وعِياذاً ومَعاذاً: لاذ به ولـجأَ إِلـيه واعتصم، يقال: عَوَّذْت فلاناً بالله وأَسمائه وبالـمُعَوِّذتـين؛ إِذا قلت: أُعِيذك بالله وأَسمائه من كل ذي شر، وكل داء وحاسد وحَيْنٍ) [4] ، (فالاستعاذة حالة نفسية، قوامها الخشية من الخطر، والثقة بمن يستعاذ به، وهي إلى ذلك ممارسة عملية بابتغاء مرضاة من نستعيذ به، وهي -فوق ذلك- الثقة بأنه وحده القادر على درء الخطر، وإنقاذ الإنسان [5] .
أما الفلق فقد اختلفوا فيه اختلافاً كبيراً، فمن قائل: أنه بئر في جهنم تحترق جهنم بناره، إلى قائل: بأنه الصبح، أو الخلق، أو ما اطمأن من الأرض، أو الجبال و الصخور.
قال ابن جرير: (والصواب القول الأول: أنه فلق الصبح، وهذا هو الصحيح، وهو اختيار البخاري في صحيحه رحمه الله تعالى) [6] ، قال المفسرون: سبب تخصيص الصبح بالتعوذ: أن انبثاق نور الصبح بعد شدة الظلمة، كالمثل لمجيء الفرج بعد الشدة، فكما أن الإِنسان يكون منتظراً لطلوع الصباح، فكذلك الخائف يترقب مجيء النجاح [7] .
أنواع الشرور المذكورة والمستعاذ منها في السورة الكريمة:
الشر الأول: الشر العام، ويشمل الشرور البارزة والخفية:
{ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } [الفلق:2] ، (أي: من شر خلقه إطلاقاً وإجمالاً، وللخلائق شرور في حالات اتصال بعضها ببعض، كما أن لها خيراً ونفعاً في حالات أخرى.
والاستعاذة بالله هنا من شرها ليبقى خيرها، والله الذي خلقها قادر على توجيهها وتدبير الحالات التي يتضح فيها خيرها لا شرها! [8] ، و (قال بعض الأفاضل: هو عام لكل شر في الدنيا والآخرة، وشر الإنس والجن والشياطين، وشر السباع والهوام، وشر النار، وشر الذنوب والهوى، وشر النفس وشر العمل، وظاهره تعميم ما خلق بحيث يشمل نفس المستعيذ) [9] ، ولقد (زوَّد الله كل حي بما يجعله يختار جانب الخير، ويحاذر جانب الشر من نفسه ومن الخلق المحيط به، والإنسان بدوره مزوَّد بالوحي والعقل والغريزة؛ لكي يتجنب الشر، والاستعاذة بالله صورة من صور الحذر من الشرور) [10] .
ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ من أشياء كثيرة، نذكر منها مثلاً: ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْر،ِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّال،ِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ؛ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ! فَقَال: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ " [11]
وكذلك ما رواه عَمْرَو الْأَوْدِيَّ قَال:َ " كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَة،َ وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْن،ِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُر،ِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَحَدَّثْتُ بِهِ مُصْعَبًا فَصَدَّقَهُ " [12] .
وكان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يلتجئون ويعتصمون ويستجيرون بالله من أنواع الشرور المختلفة؛ فهذا إبراهيم عليه السلام يطلب من ربه أن يبعده وأبناءه من شرِّ عبادة الأصنام، التي أضلت الكثير من البشر: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ } [إبراهيم:35] ، وهذا يوسف عليه السلام يلتجئ إلى الله من شرِّ مكر النساء اللواتي أردن به الكيد والوقوع فيما يسخط الخالق: { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ } [يوسف:33] ، وهذا يعقوب عليه السلام لما حصل ليوسف وأخيه ما حصل، وثق بأن الله سبحانه سيحفظهما من الشرور والمكائد فقال: { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا } [يوسف:64] ، وهذا نبي الله موسى عليه السلام يستعيذ بالله خالقه وخالق قومه من أن يمسَّه قومه بسوء، سواء بالقول أو الفعل: { وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ } [الدخان:20] .
الشر الثاني: { وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } [الفلق:3]:
قالوا: (الغسق: شدة الظلام، والغاسق: هو الليل أو من يتحرك في جوفه، والوقب: الدخول، قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي والضحاك والحسن وقتادة: أنه الليل إذا أقبل بظلامه) [13] ، (والمقصود هنا –غالباً- هو الليل وما فيه، الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة، والليل حينئذ مخوف بذاته، فضلاً على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء: من وحش مفترس يهجم، ومتلصص فاتك يقتحم، وعدو مخادع يتمكن، وحشرة سامة تزحف، ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان تتسرب في الليل, وتخنق المشاعر والوجدان, ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء، ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام، ومن ظاهر وخَافٍ يدبُّ ويثب, في الغاسق إذا وقب !) [14] .
نعم، (يهبط الليل بظلامه ووسواسه وطوارقه، ويتحرك في جنحه الهوام وبعض الوحوش، وينشط المجرمون والكائدون، ويستولي المرض والهم على البعض، وتشتد الغرائز والشهوات في غيبة من الرقابة الاجتماعية، ويحتاج الإنسان إلى مضاء عزيمة وثقة، حتى يتغلب عليه وعلى أخطاره، وهكذا يستعيذ بالله منه) [15] ، قال الرازي: (وإِنما أُمر أن يتعوذ من شر الليل؛ لأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوامُّ من مكانها، ويهجم السارقُ والمكابر، ويقع الحريق، ويقل فيه الغوث) [16] ؛ ولهذا نهى النبي عليه الصلاة والسلام المسلم أن يمشي في الليل وحده، فعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَوْ أَنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِنْ الْوِحْدَةِ؛ مَا سَرَى رَاكِبٌ بِلَيْلٍ، يَعْنِي: وَحْدَهُ " [17] ؛ ولهذا أيضاً كان من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم ألا يسافر المرء وحده، بل مع ركب أقله ثلاثة: " الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب " [18] .
ولعل القارئ الكريم يلاحظ ما الذي يحصل حينما ينطفئ التيار الكهربائي ليلاً في مدينة من مدن العالم الكبيرة؛ من سلب ونهب وسرقات واغتصاب وشرور مختلفة ومتنوعة، ولا ملجأ ولا منجا من ذلك إلا الله سبحانه، والاستجارة به وطلب الغوث منه.
الشر الثالث: { النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } [الفلق:4]:
والنفاثات: (السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواس, وخداع الأعصاب, والإيحاء إلى النفوس والتأثير والمشاعر، وهن يعقدن العُقَد في نحو خيط أو منديل وينفثن فيها، كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء! والسحر لا يغير من طبيعة الأشياء، ولا ينشئ حقيقة جديدة لها، ولكنه يُخَيِّل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر) [19] .
وقد شنّ الإسلام على السحر حرباً ضروساً لا هوادة فيها، يقول تعالى فيمن يتعلمون السحر: { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ } [البقرة:102] .
وقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم السحر من كبائر الذنوب الموبقات، التي تهلك الأمم قبل الأفراد، وتردي أصحابها في الدنيا قبل الآخرة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ " [20] .
وقد اعتبر بعض فقهاء الإسلام السحر كفراً، أو مؤدياً إلى الكفر، وذهب بعضهم إلى وجوب قتل الساحر تطهيراً للمجتمع من شره، وكما حرَّم الإسلام على المسلم الذهاب إلى العرافين لسؤالهم عن الغيوب والأسرار، حرَّم عليه أن يلجأ إلى السحر أو السحرة لعلاج مرض ابتلي به، أو حلِّ مشكلة استعصت عليه، فهذا ما برِئ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، قال: " ليس منا من تَطير أو تُطُير له، أو تَكهن أو تُكُهن له، أو سحر أو سُحِر له " .
(فالحرمة هنا ليست على الساحر وحده، وإنما هي تشمل كل مؤمن بسحره مشجِّع له، مصدِّق لما يقول، وتشتد الحرمة وتفحش إذا كان السحر يستعمل في أغراض هي نفسها محرمة؛ كالتفريق بين المرء وزوجه، والإضرار البدني، وغير ذلك مما يعرف في بيئة السحارين) [21] .
وقد ابتليت مجتمعات المسلمين بهذا الشر العظيم، وانتشر السحرة والمشعوذون بصورة لم يسبق لها مثيل، وصار الناس يذهبون إلى العرَّافين والسحرة المفسدين يبتغون عندهم العلاج والشفاء، فعمَّ البلاء وطم؛ ولذا كان للإسلام هديه الخاص في علاج السحر، قوامه وعماده الاستعاذة بالله، والركون إليه، والاستعانة به، فإن السحر داء خفي ومستتر يحتاج إلى علاج خاص.
وهذا العلاج ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما يُتَّقى به السحر قبل وقوعه ومن ذلك:
أولاً: تجديد الإيمان في النفوس كلما أنس المرء من نفسه ضعفاً، والالتجاء إلى الله كلما خاف المرء على نفسه عدواً، ومن يركن إلى الله فإنما يأوي إلى ركن شديد، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، ومن لوازم الإيمان: الاستمساك بشرع الله أمراً ونهياً علانية وسراً، والقيام بجميع الواجبات، وترك جميع المحرَّمات، والتوبة من جميع السيِّئات، والإِكثار من قراءة القرآن الكريم؛ بحيث يجعل له ورداً منه كل يومٍ.
ثانياً: نشر العلم بقضايا العقيدة والحرص على سلامتها، وبيان ما يخدشها، وتعميم الوعي بمخاطر السحر والشعوذة، وتحذير الناس منها بمختلف وسائل الإعلام، وتوسيع دائرة الوعي بمدارس البنين والبنات، وبالطرق المناسبة، واستخدام المحاضرة والندوة والمطوية أسلوباً من أساليب التوعية عن هذه الأدواء [22] .
ثالثاً: إصلاح البيوت وعمارتها بالذكر والصلاة وتلاوة القرآن، فهل نحصن بيوتنا ونحفظ أنفسنا وأولادنا وأهلينا بذكر الله والصلاة وتلاوة القرآن.. مع استبعاد كل ما يجمع الشياطين من الصور والكلاب والغناء ونحوها من المنكرات الأخرى؟ ذلكم لمن رام النجاة في الدنيا والآخرة [23] .
رابعاً: أكل سبع تمراتٍ على الرِّيق صباحاً إِذا أمكن؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: " من اصطبح بسبع تمرات عجوةً لم يضُرُّهُ ذلك اليوم سُمٌّ ولا سحرٌ " [24] .
خامساً: أما الحصن الحصين والسبب الوافي المنيع -بإذن الله- من كل سوء ومكروه، فهو المحافظة على الأوراد الشرعية في الصباح والمساء، وهي صالحة للاستشفاء قبل وقوع السحر أو بعد وقوعه، وكيف لا؟ وهي الأدوية الإلهية كما يسميها ابن القيم رحمه الله، ومع مسيس حاجة الإنسان لهذه الأذكار فما أكثر ما يقع التفريط فيها! ومن ذلك:
(بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) ثلاث مراتٍ في الصباح والمساء [25] ، وقراءة آية الكرسيِّ دبر كلِّ صلاةٍ وعند النوم، وفي الصباح والمساء [26] ، وقراءة (قل هو الله أحدٌ) والمعوِّذتين ثلاث مراتٍ في الصباح والمساء وعند النوم، وقول (لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قديرٌ مائة مرةٍ كل يوم) [27] ، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، والأذكار أدبار الصلوات، وأذكار النوم، والاستيقاظ منه، وأذكار دخول المنزل والخروج منه، وأذكار الرُّكوب، وأذكار دخول المسجد والخروج منه، ودعاء دخول الخلاء والخروج منه، ودعاء من رأى مُبتلىً، وغير ذلك..
ولا شكَّ أنَّ المحافظة على ذلك من الأسباب التي تمنع الإِصابة بالسِّحر، والعين، والجانِّ بإذن الله تعالى، وهي أيضاً من أعظم العلاجات بعد الإصابة بهذه الآفات وغيرها [28] .
القسم الثاني: علاج السحر بعد وقوعه وهو أنواعٌ:
النوع الأول: استخراجه وإبطاله إذا عُلم مكانه بالطرق المباحة شرعاً، وهذا من أبلغ ما يُعالج به المسحور [29] .
النوع الثاني: الرُّقية الشرعية:
من القرآن الكريم: تقرأ سورة الفاتحة، وآية الكرسيِّ، والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة، وسورة الإِخلاص، والمعوِّذتين ثلاث مراتٍ أو أكثر مع النفث ومسح الوجع باليد اليمنى [30] .
التعوذات والرُّقى والدعوات الجامعة من السنة النبوية:
أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يشفيك (سبع مرات) [31] ، يضع المريض يده على الذي يُؤلمه من جسده، ويقول: (بسم الله) ثلاث مراتٍ، ويقول: أعوذُ بالله وقدرته من شرِّ ما أجد وأُحاذر (سبع مراتٍ) [32] .
اللهم ربَّ الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إِلا شفاؤك شفاءً ولا يُغادر سقماً [33] .
أعوذ بكلمات الله التامات من كلِّ شيطانٍ وهامَّهٍ ومن كلِّ عينٍ لامَّةٍ [34] .
بسم الله أرقيك من كل شيءٍ يُؤذيك ومن شرِّ كلِّ نفسٍ أو عين حاسدة الله يشفيك بسم الله أرقيك [35] .
وهذه التعوذات، والدَّعوات، والرُّقى وغيرها مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم يعالج بها من السحر، والعين، ومسِّ الجان، وجميع الأمراض، فإِنها رُقىً جامعةٌ نافعةٌ بإِذن الله تعالى [36] .
النوع الثالث: الاستفراغ بالحجامة في المحلِّ أو العضو الذي ظهر أثر السِّحر عليه.
النوع الرابع: الأدوية الطبيعية، فهناك أدويةٌ طبيعيةٌ نافعةٌ دلَّ عليها القرآن الكريم والسَّنة المطهرة إذا أخذها الإِنسان بيقينٍ وصدقٍ وتوجهٍ مع الاعتقاد أن النفع من عند الله نفع الله بها إِن شاء الله تعالى، كما أن هناك أدويةٌ مركبةٌ من أعشاب ونحوها، وهي مبينةٌ على التجربة فلا مانع من الاستفادة منها شرعاً ما لم تكن حراماً، ومن العلاجات الطبيعية النافعة بإذن الله تعالى: العسل، والحبة السوداء، وماء زمزم، وماء السماء، وزيت الزيتون، والاغتسال والتنظف والتطيُّب.
الشر الرابع: { حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [الفلق:5]:
يقول القرطبي: (الحسد أول ذنب عُصى الله به في السماء، وأول ذنب عصى به في الأرض؛ فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل، والحاسد ممقوت، مبغوض، مطرود، ملعون) [37] .
ويقول أيضاً: (وقيل الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جزعاً وغماً، ولا ينال في الآخرة إلا حزناً واحتراقاً، ولا ينال من الله إلا بعداً) [38] .
وجاء في مختار الصحاح: الحسد: (أن تتمنى زوال نعمة المحسود إليك، وبابه دخل، وقال الأخفش: وبعضهم يقول يحسِده بالكسر حسداً بفتحتين وحسده على الشيء، وحسده الشيء بمعنى وتحاسد القوم وقوم حسدة كحامل وحملة) [39] .
قال الثعالبي: (وقوله تعالى: { وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } قال قتادة: مِنْ شَرِّ عَيْنِهِ ونَفْسِهِ، يريد بـ(النَّفْس): السعْيَ الخَبِيثَ، وقال الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: ذكَر اللَّه تعالى الشُّرُور في هذه السُّورة، ثم ختمها بالحَسَدِ؛ ليعلم أنَّه أخسُّ الطَبائع) [40] .
ولعل من أنواع الحسد الشديدة الخطورة (العين)؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ٍ أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " الْعَيْنُ حَقٌّ " [41] .
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ.. " [42] ، وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ " [43] .
أما علاج الإصابة بالعين فأقسام:
القسم الأول: قبل الإصابة وهو أنواع:
التحصُّن وتحصين من يُخاف عليه بالأذكار، والدَّعوات، والتعوُّذات المشروعة كما في القسم الأول من علاج السحر، وأن يدعو من يخشى أو يخاف الإِصابة بعينه -إِذا رأى من نفسه أو ماله أو ولده أو أخيه أو غير ذلك مما يُعجبه- بالبركة (ما شاء الله لا قوة إِلا بالله اللهم بارك عليه)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " إِذا رأى أحدكم من أخيه ما يُعجبه فليدع له بالبركة " [44] .
وكذلك ستر محاسن من يُخاف عليه العين [45] .
القسم الثاني: بعد الإِصابة بالعين وهو أنواع:
إِذا عُرف العائن أُمر أن يتوضَّأ ثم يغتسل منه المصاب بالعين [46] ، الإِكثار من قراءة (قل هو الله أحد) والمعوذتين، وفاتحة الكتاب، وآية الكرسيِّ، وخواتيم سورة البقرة، والأدعية المشروعة في الرُّقية مع النَّفث ومسح موضع الألم باليد اليمنى كما ذكرنا في علاج السحر.
القسم الثالث: عمل الأسباب التي تدفع عين الحاسد وهي كالتالي:
الاستعاذة بالله من شره، وتقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه سبحانه: " احفظ الله يحفظك " [47] ، والصبر على الحاسد والعفو عنه، فلا يُقاتله، ولا يشكوه، ولا يُحدث نفسه بأذاه، والتَّوكُّل على الله فمن يتوكَّل على الله فهو حسبه، ولا يخافُ الحاسد ولا يملأُ قلبه بالفكر فيه وهذا من أنفع الأدوية، والإِقبال على الله والإِخلاص له، وطلب مرضاته سبحانه، والتوبة من الذنوب؛ لأنها تُسلِّط على الإِنسان أعداءه: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى:30] ، والصدقة والإِحسان ما أمكن، فإِن لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء والعين وشرِّ الحاسد، وإِطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إِليه، فكلَّما ازداد لك أذى وشراً وبغياً وحسداً؛ ازددت إليه إِحساناً، وله نصيحةً وعليه شفقةً، وهذا لا يُوفَّق له إِلا من عظم حظُّه من الله، وتجريد التوحيد وإِخلاصه للعزيز الحكيم الذي لا يضرُّ شيءٌ ولا ينفع إِلا بإِذنه سبحانه، وهو الجامع لذلك كله، وعليه مدار هذه الأسباب، فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين.
فهذه عشرة أسباب يندفع بها شرُّ الحاسد والعائن والساحر [48] .
[1] سنن الدارمي، كتاب فضل القرآن، باب في فضل المعوذتين، حديث3306 .
[2] سنن الترمذي، كتاب الطب عن رسول الله، باب ما جاء في الرقية بالمعوذتين، حديث1984.
[3] سيد قطب، في ظلال القرآن، ج6، ط9 (دار الشروق ، 1980) ص 4006 .
[4] ابن منظور، لسان العرب، ج3، (بيروت: دار صادر) ص489 .
[5] محمد تقي المدرسي، موقع المدرسي
[6] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج4، (بيروت:دار الفكر، 1401هـ) ص574 .
[7] الصابوني، صفوة التفاسير،ج3، (بيروت: دار القرآن الكريم، 1981) ص624 .
[8] سيد قطب، مرجع سابق، ص 4007 .
[9] الألوسي البغدادي، روح المعاني، ج30، (دار إحياء التراث العربي) ص33 .
[10] محمد تقي المدرسي، موقع المدرسي
[11] البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل الأذان، حديث789 .
[12] البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما يتعوذ من الجبن، حديث2610 .
[13] ابن كثير، مرجع سابق، ص574 .
[14] سيد قطب، مرجع سابق، ص4007 .
[15] محمد تقي المدرسي، موقع المدرسي
[16] الصابوني، مرجع سابق، ص624 .
[17] سنن الترمذي، كتاب الجهاد عن رسول الله، باب ما جاء في كراهية أن يسافر الرجل وحده، حديث 1596 .
[18] الترغيب والترهيب، ج4، ص71، حديث 4، ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم .
[19] سيد قطب، مرجع سابق، ص4007 .
[20] البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال الناس ظلماً)، حديث 2560 .
[21] يوسف القرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام، ط13، (عمان: المكتب الإسلامي، 1980) ص231 .
[22] سليمان العودة، خطبة(الوقاية من السحر)، موقع المنبر
[23] سليمان العودة، الموقع السابق .
[24] البخاري مع الفتح، 10ج، حديث247، ومسلم، ج 3، حديث1618 .
[25] الترمذي، وأبو داود، وصحيح ابن ماجة، ج2، حديث332 .
[26] الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي ج1، حديث562 .
[27] البخاري ج4، حديث195، ومسلم، ج 4، حديث2071 .
[28] ابن القيم، زاد المعاد في هدي غير العباد، ج4 (مكة المكرمة: مكتبة نزار مصطفى الباز، 1416هـ) ص126.
[29] ابن القيم، المرجع السابق، ص124، والبخاري مع الفتح، ج10، حديث 123، ومسلم، ج 4، حديث1917.
[30] البخاري مع الفتح، ج 9، حديث62، ومسلم، ج 4، حديث1723.
[31] أبو داود، ج 3، حديث187، الترمذي، ج 2، حديث410.
[32] مسلم، ج 4، حديث1728.
[33] البخاري مع الفتح، ج10، حديث 206، ومسلم، ج 4، حديث1721.
[34] البخاري مع الفتح، ج 6، حديث408.
[35] مسلم، ج4، حديث 1718.
[36] ابن القيم، زاد المعاد ج4، ص125
[37] أبو عبد الله القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ط2، (القاهرة: دار الشعب، 1327هـ) ص259 .
[38] أبو عبد الله القرطبي، مرجع سابق، ج20 ص: 57 .
[39] أبو بكر الرازي، مختار الصحاح، ج1، (بيروت: مكتبة لبنان، 1995) ص57 .
[40] عبد الرحمن الثعالبي، الجواهر الحسان، ج3 (بيروت: دار الكتب العلمية) ص1724 .
[41] البخاري، كتاب الطب، باب العين حق، حديث5299 .
[42] مسلم، كتاب السلام، باب الطب والرقى والمرض، حديث 4058 .
[43] سنن ابن ماجة، كتاب الطب، باب العين، حديث3499 .
[44] ابن ماجة، ج 2، حديث1160 وأحمد، ج4، حديث 447 .
[45] البغوي، شرح السنة، ج 13، حديث 116 وزاد المعاد، ج4، ص173 .
[46] سنن أبي داود، ج4، حديث9 وزاد المعاد، 4ج، ص163 .
[47] صحيح الترمذي، ج2، حديث309 .
[48] ابن القيم، بدائع الفوائد، ج2، (مكة المكرمة: مكتبة نزار مصطفى الباز، 1996) ص245