جمع صلاة العصر مع الجمعة للمسافر
جمع صلاة العصر مع الجمعة للمسافر
سعود بن عبد اللّه الفنيسان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى صحابته أجمعين، وبعد:
مما
دفعني للكتابة في هذا الموضوع أنني وجدت بعض المفتين لم يكتفِ بالقول بعدم
جواز الجمع في هذه المسألة، بل أبطل صلاة العصر، وأمر من جمعها مع الجمعة
بالإعادة، فيا سبحان الله كيف تبطل صلاة أديت بشروطها وأركانها
وواجباتها، وهي من أهل الأعذار الذين لا تلزمهم، وإن حضروها أجزأت؟!!
فأقول وبالله التوفيق:
لعله من المعلوم ونافلة القول أن يعلم أن هذه المسألة لم تقع في عهد
النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع العلم بأنه سافر أسفاراً كثيرة تخللها
أيام جمعة. وكان يصلي في سفره ركعتين؛ لكن هل هاتان الركعتان جمعة أم صلاة
ظهر؟ ولعل هذا هو السبب في أن هذه المسألة لم يشبعها الفقهاء بحثاً
واستدلالاً في كتبهم وموسوعاتهم الفقهية، بل كل ما وجدته في بعض المراجع
إنما مجرد إشارات لا غير في مثل مسألة: هل صلاة الجمعة أصل بنفسها، أم
الأصل صلاة الظهر، والجمعة بدل عنها في ذلك اليوم؟
يقول الماوردي الشافعي
:" فرض الجمعة كان في أول الإسلام ظهراً أربع ركعات، ثم نقل الفرض إلى
ركعتين على شرائط وأوصاف من غير أن ينسخ الظهر"، وذكر سليمان المرداوي
الحنبلي: " الجمعة صلاة مستقلة على الصحيح من المذهب وعنه - أبي يعلى- هي
ظهر مقصورة وأطلقها في التلخيص والرعاية"، وقال ابن مفلح: "الجمعة أفضل من
الظهر، وهي صلاة مستقلة، وعنه ظهر مقصورة، وقيل هي الأصل والظهر بدل"،
وذكر أبو عمرو بن عبد البر المالكي: "وللإمام المسافر أن يُجمِّع صلاة
الجمعة بقرية إذا كانت تجب بها الجمعة، فإن لم تكن تجب بها الجمعة أجزأته
ومن معه من المسافرين، ويتم أهل الحضر صلاتهم ظهراً يبنون ولا يعيدون".
وقد ذُكر "أن هارون
الرشيد اجتمع عنده الإمام الشافعي، ومحمد بن الحسن، فسأل الرشيد محمد بن
الحسن عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة: هل كانت جمعة أو
ظهراً؟ فقال: جمعة؛ لأنه خطب قبل الصلاة، ولو كانت غير جمعة لأخرّ الخطبة
كما في الاستسقاء والعيدين. ثم سأل الشافعي فقال: كانت ظهراً؛ لأنه أسرَّ
فيها القراءة، ولو كانت جمعة لجهر. فصدقه الرشيد". وقد نقلت هذه الحكاية
أيضاً أنها وقعت بين مالك وأبي يوسف.
ويظهر مما سبق أن مذهب
الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف ورواية في مذهب أحمد: "أن الظهر هي
الأصل، والجمعة بدل منها". وعند محمد بن الحسن وزفر من الحنفية ورواية في
مذهب أحمد: "أن الجمعة هي الأصل، وأن الظهر بدل منها". والجميع متفقون على
أن من فاتته الجمعة يقضيها ظهراً. كما أن علماء السلف والخلف مجمعون على
أن المسافر لا تجب في حقه الجمعة، غير أنه إذا حضرها أجزأته عن الظهر.
وقد وجدت النووي
الشافعي "يجوِّز الجمع بين الجمعة والعصر في المطر..، ويجوِّز تأخير
الجمعة إلى وقت العصر بناء على تأخير الظهر إلى العصر". ويقول الرملي
الشافعي: "ويجوز الجمع تقديماً للمطر ولو مقيماً لما يجمعه بالسفر ولو
جمعه مع العصر".
وقال منصور البهوتي الحنبلي: "ولا تجمع جمعة إلى عصر ولا غيرها؛ لعدم وروده".
وقد أفتى الشيخ محمد
بن إبراهيم آل الشيخ: "بأن جمع العصر إلى الجمعة لا يصح بحال"، وتابعته
اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة بفتواها رقم (19887) غير أنها زادت: " أن
صلاة العصر ليست من جنس صلاة الجمعة". وتبين مما قاله النووي والرملي
جواز جمع صلاة العصر مع الجمعة في حالة المطر للمقيم والمسافر على السواء.
وما ذكره الحنابلة: من القول بالمنع في هذا الجمع في حالتي الحضر والسفر.
وبعد البحث والنظر
والتأمل في هذه المسألة الهامة، والتي يحتاجها الناس كثيراً، ويسألون عنها
تبين لي جواز جمع صلاة العصر تقديماً مع الجمعة للمسافر، لأدلة منها:
أولاً: لعموم أدلة الرخصة واليسر في الدين عامة، وفي أحكام السفر خاصة، ومنها القصر والجمع.
ومن أدلة القصر:
حديث يعلى بن أمية في صحيح مسلم سأل عمر بن الخطاب –رضي الله عنه - عن
قوله - تعالى -: (ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم
الذين كفروا) وقد أمن الناس؟ قال عمر: "عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: ((صدقة تصدق الله بها عليكم
فاقبلوا صدقته)) ووجه الاستدلال: أن صلاة المسافر مبناها على التخفيف
والتيسير.
ومن أدلة الجمع:
بين حديث عبد الله بن عباس وأبي هريرة –رضي الله عنهم- عند مسلم،
والترمذي وأبي داود والنسائي ومالك بن أنس –رضي الله عنه- : ((أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة
من غير خوف ولا مطر)) وفي رواية ((ولا سفر))، وقد عنون بعض الشراح لهذا
الحديث: "جواز الجمع بين الصلاتين للحاجة". والحاجة تنزل منزلة الضرورة
عند أهل العلم. قال الخطابي في معالم السنن، وحكي عن محمد بن سيرين: "أنه
لا يرى بأساً أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شيء ما لم يتخذ
عادة". ووجه الاستدلال: أن السفر من أهم الحاجات للإنسان، وأيد هذا الرأي
وجوّده الشيخ أحمد شاكر، وحامد الفقي: "فالجمع بين الصلاتين للحاجة ولو
لغير المعذور شرعاً -كما في نص الحديث- رفع الكثير من الحرج عن الناس".
ثانياً: إذا كانت الجمعة لا تلزم المسافر حيث السفر أحد الأعذار المسقطة لها عنه، وتصح منه إذا حضرها، فكيف يمنع من جمع صلاة العصر معها؟!
ثالثاً:
صلاة الجمعة تسقط عن المقيم في حال المطر والوحل الشديد كما عند أحمد
ومالك- بخلاف الظهر؛ لأنها الأصل، فسقوط الفرع (الجمعة) عن المسافر
المعذور أولى.
رابعاً: لم
ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي أن يجمع المسافر العصر مع
الجمعة، مع كثرة وقوع السفر يوم الجمعة، ولو كان لا يجوز لنقل ذلك، وتأخير
البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
خامساً:
إن الله أرسل نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليبين للناس ما يحتاجون
إليه في حياتهم وحلهم وإقامتهم، فقال - تعالى -: (وأنزلنا إليك الذكر
لتبين للناس ما نزل إليهم) وقال: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم
الذي اختلفوا فيه.. ) وقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس ما
نُزل إليه من ربه، وما لم ينزل عليه فهو عفو مسكوت عنه كما في حديث ابن
عباس –رضي الله عنهما- عند أبي داود والترمذي "فبعث الله نبيه وأنزل
كتابه، وأحل حلاله وحرم حرامه، وما سكت عنه فهو عفو"ووجه الاستدلال: أن
المسألة (جمع صلاة العصر مع الجمعة للمسافر) مما سكت عنه الشارع، فهي من
العفو المباح شرعاً. والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.