زجر أهل العلم والتقوى للمتساهلين بالفتوى
زجر أهل العلم والتقوى للمتساهلين بالفتوى
سعد بن ضيدان السبيعي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فقد روى يعقوب بن شيبة في
المعرفة والتاريخ(1/670)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم
وفضله(2/201)أن رجلاً دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن التيمي المعروف
بربيعة الرأي وهو يبكي فقال: ما يبكيك - وارتاع لبكائه - أدخلت عليك
مصيبة؟ فقال: لا، ولكن "استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم".
أقول رحم الله شيخ إمام دار الهجرة فكيف لو أدرك زماننا ورأى الجرأة على الفتيا وكثرة الموقعين عن الله - عز وجل -؟!
فكم سمعنا من فتاوى نشاز
من هنا وهناك، طارت بها الركبان، ونشرت على صفحات الانترنت، وظهر أصحابها
يتفوهون بها على شاشات الإعلام وتسارع إليها الجهال ومن في قلبه مرض ومن
يتتبع الرخص!.
وهى أعني هذه الفتاوى ليس
لها ذنوباً وحظاً من فقه وعلم وإنما صدرت باسم فقه التيسير، ومراعاة لضغط
الجمهور، أو لأغراض فاسدة، كالتعلق بأذيال الشهرة، وحب الظهور من باب:
(أنا أبو اعرفوني)!.
فهذا يفتي بجواز الغناء وأخر بإباحة الاختلاط وثالث بإباحة الفوائد البنكية!.
وهؤلاء بمنزلة من يدل
الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة
وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء
كلهم وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى
فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟ فيما قاله أبو الفرج
ابن الجوزي - رحمه الله - ينظر إعلام الموقعين (4/237).
وقد نص أهل العلم على أنه
لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتى وذلك
قد يكون بأن لا يثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر
وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة والإبطاء عجز ومنقصة وذلك جهل
ولأن يبطئ ولا يخطئ أجمل به من أن يعجل فيضل ويضل. ينظر فتاوى ابن
الصلاح(1/21)، ونقله النووي في أدب المفتي والمستفتي(72)
وما أجمل قول الخطيب
البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه(2/350): "وقل من حرص على الفتوى، وسابق
إليها، وثابر عليها إلا قل توفيقه، واضطرب في أمره، وإذا كان كارهاً لذلك
غير مختار له، ما وجد مندوحة عنه، وقدر أن يحيل بالأمر فيه على غيره،
كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في فتواه وجوابه أغلب".
فانظر الآن يا رعاك الله
إلى بعض من يتصدرون للفتيا تجدهم سارعوا إليها واشرأبوا حتى لا ينكسر
الجاه وأضاعوا "لا أدري" وقديما قيل: إذا أغفل العالم لا أدري، أصيبت
مقاتله. وهذا مروي عن محمد بن عجلان بسند صحيح رواه الآجري في أخلاق
العلماء(102)
قال ابن جماعة الكناني في
تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم (23)" واعلم أن قول
المسئول لا أدري لا يضع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، بل يرفعه لأنه دليل
عظيم على عظم محله وقوة دينه وتقوى ربه وطهارة قلبه وكمال معرفته وحسن
تثبته. وقد روينا معنى ذلك عن جماعة من السلف وإنما يأنف من قول لا أدري
من ضعفت ديانته وقلت معرفته؛ لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، وهذه
جهالة ورقة دين وربما يشهر خطؤه بين الناس فيقع فيما فر منه ويتصف عندهم
بما احترز عنه، وقد أدب الله - تعالى -العلماء بقصة موسى مع الخضر -
عليهما السلام -، حين لم يرد موسى - عليه الصلاة والسلام - العلم إلى الله
- تعالى -لما سئل هل أحد في الأرض أعلم منك".
وقد كان أكثر أصحاب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يقلون من الفتيا، والكثير منهم لا يروى عنه
في هذا الباب إلا المسألة والمسألتان!.
قال الإمام ابن حزم
الأحكام (5 / 666): "المكثرون من الصحابة - رضي الله عنهم - فيما روي عنهم
من الفتيا عائشة أم المؤمنين، عمر بن الخطاب، ابنه عبد الله، علي بن أبي
طالب، عبد الله ابن العباس، عبد الله بن مسعود، زيد بن ثابت، فهم سبعة
يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم سفر ضخم، وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى
بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن العباس في عشرين
كتابا، وأبو بكر المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.
والمتوسطون منهم فيما روي
عنهم من الفتيا - رضي الله عنهم - أم سلمة أم المؤمنين، أنس بن مالك، أبو
سعيد الخدري، أبو هريرة، عثمان بن عفان، عبد الله بن عمرو بن العاص، عبد
الله بن الزبير، أبو موسى الأشعري، سعد بن أبي وقاص، سلمان الفارسي، جابر
بن عبد الله، معاذ بن جبل، وأبو بكر الصديق. فهم ثلاثة عشر فقط. يمكن أن
يجمع من فتيا كل امرئ منهم جزء صغير جداً ويضاف أيضاً إليهم طلحة، الزبير،
عبد الرحمن بن عوف، عمران بن الحصين، أبو بكرة، عبادة بن الصامت، معاوية
بن أبي سفيان.
والباقون منهم مقلون في
الفتيا لا يروي الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على
ذلك فقط يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث
وهم...". وذكر أسمائهم.
أقول وكانوا أيضا يتدافعون الفتيا ورعاً وخوفاً من الله.
عن البراء بن عازب - رضي
الله عنه - قال: " لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما منهم من أحد إلا وهو
يحب أن يكفيه صاحبه الفتوى " رواه الخطيب البغدادي في الفقيه
والمتفقه(2/349)بسند صحيح
وروى الإمام ابن
المبارك(19) في الزهد بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت
عشرين ومائة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أراه قال في هذا
المسجد فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا مفت إلا ود أن
أخاه كفاه الفتيا".
وروى أيضاً في الزهد(18)
بسند صحيح أن ابن عمر - رضي الله عنه -، سئل عن شيء "، فقال: " لا أدري "،
ثم أتبعها، فقال: " أتريدون أن تجعلوا ظهورنا لكم جسورا في جهنم، أن
تقولوا أفتانا ابن عمر بهذا "
هذا شأن الصحابة وكذلك من أتى من بعدهم من أهل العلم والفضل المشهود لهم بالإمامة في العلم والدين.
فهذا الإمام مالك بن أنس
إمام دار الهجرة يقول: " ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك "رواه
الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه(2/324) بسند صحيح.
وهذا إمام أهل السنة
والجماعة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، قيل له:: " يا أبا عبد الله:
كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي؟ يكفيه مائة ألف؟، قال: لا،
قيل: مائتا ألف؟ قال: لا، قيل: ثلاثمائة ألف؟ قال: لا، قيل: أربعمائة ألف؟
قال: لا، قيل: خمسمائة ألف؟ قال: أرجو " الخطيب البغدادي في الفقيه
والمتفقه(2/349).
وهذا ابنه عبد الله يقول
عنه: "كنت أسمع أبي كثيراً يسأل عن المسائل فيقول لا أدري وذلك إذا كانت
مسألة فيها اختلاف وكثير مما كان يقول سل غيري فإن قيل له من نسأل يقول
سلوا العلماء ولا يكاد يسمي رجلاً بعينه" مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه
عبد الله (438).
وكثيراً ما كنت أسمع شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز - رحمه الله - إلى قبيل وفاته إذا سئل عن مسألة يقول: "محل نظر، محل بحث"!.
أقول وفي هذا رسالة لكل من تزبب قبل أن يحصرم، وطار قبل أن يريش، فإلى الله المشتكى.
قال ابن حمدان في صفة
الفتوى(14): "عظم أمر الفتوى وخطرها وقل أهلها ومن يخاف إثمها وخطرها
وأقدم عليها الحمقى والجهال ورضوا فيها بالقيل والقال واغتروا بالإمهال
والإهمال واكتفوا بزعمهم أنهم من العدد بلا عدد وليس معهم بأهليتهم خط أحد
واحتجوا باستمرار حالهم في المدد بلا مدد وغرهم في الدنيا كثرة الأمن
والسلامة وقلة الإنكار والملامة".
وما أحوج هؤلاء لمن يأخذ على أيديهم ويحتسب في منعهم وزجرهم حتى لا يقولوا على الله بغير علم.
قال ربيعة بن أبي عبد
الرحمن: "ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق". رواه الإمام ابن عبد
البر في جامع بيان العلم وفضله(2/201).
وقد كان الإمام ابن تيمية
- رحمه الله - شديد الإنكار على من يفتي وهو ليس بأهل. قال الإمام ابن
القيم في إعلام الموقعين (4/237)سمعته يقول قال لي بعض هؤلاء: أجعلت
محتسبا على الفتوى؟! فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون
على الفتوى محتسب.
قال الخطيب البغدادي في
الفقيه والمتفقه(2/324): "ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين،
فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم
إليه بأن لا يتعرض لها وأوعده بالعقوبة، إن لم ينته عنها، وقد كان الخلفاء
من بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قوما يعينونهم، ويأمرون
بأن لا يستفتى غيرهم".
وهناك من يفتي بفتاوى لها
حظ من النظر والصواب وقال بها بعض أهل التحقيق من أهل العلم ولكن قد تفهم
على غير فهمها وتحمل مالا تحتمل فيكون السكوت عنها به أجمل وأليق.. فليس
كل ما يعلم يقال.
وقد بوب الإمام البخاري
في صحيحة باب "مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ
أَنْ لاَ يَفْهَمُوا". وروى عن عَلِيٌّ - رضي الله عنه - (127) أنه قال:
"حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ".
وروى الإمام مسلم في
مقدمة صحيحه عن عَبْد اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ:
"مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ
إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً".
قال الحافظ ابن حجر في
فتح الباري لابن حجر(1 / 203): "وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِه
لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَر عِنْد الْعَامَّة. وَمِثْله قَوْل اِبْن
مَسْعُود: " مَا أَنْتَ مُحَدِّثًا قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغهُ
عُقُولهمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَة " رَوَاهُ مُسْلِم.
وَمِمَّنْ كَرِهَ التَّحْدِيث بِبَعْضٍ دُون بَعْض أَحْمَد فِي
الْأَحَادِيث الَّتِي ظَاهِرهَا الْخُرُوج عَلَى السُّلْطَان، وَمَالِك فِي
أَحَادِيث الصِّفَات، وَأَبُو يُوسُف فِي الْغَرَائِب، وَمِنْ قَبْلهمْ
أَبُو هُرَيْرَة كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي الْجِرَابَيْنِ وَأَنَّ
الْمُرَاد مَا يَقَع مِنْ الْفِتَن، وَنَحْوه عَنْ حُذَيْفَة وَعَنْ
الْحَسَن أَنَّهُ أَنْكَرَ تَحْدِيث أَنَس لِلْحَجَّاجِ بِقِصَّةِ
الْعُرَنِيِّينَ لِأَنَّهُ اِتَّخَذَهَا وَسِيلَة إِلَى مَا كَانَ
يَعْتَمِدهُ مِنْ الْمُبَالَغَة فِي سَفْك الدِّمَاء بِتَأْوِيلِهِ
الْوَاهِي، وَضَابِط ذَلِكَ أَنْ يَكُون ظَاهِر الْحَدِيث يُقَوِّي
الْبِدْعَة وَظَاهِره فِي الْأَصْل غَيْر مُرَاد، فَالْإِمْسَاك عَنْهُ
عِنْد مَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ ا لْأَخْذ بِظَاهِرِهِ مَطْلُوب".
وقد كان السلف الصالح يمسكون عن الحديث والفتوى عند خشية اللبس أو عدم الفهم!
قال ابن شبرمة: " إن من
المسائل مسائل لا يجمل بالسائل أن يسأل عنها ولا بالمسئول أن يجيب ". رواه
الخطيب في الفقيه والمتفقه (2 / 91).
وانظر في هذا التعليق
النفيس للحافظ الذهبي عَلى حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ:
" حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وِعَاءَيْنِ
فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ
قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ". في سير أعلام النبلاء(2 / 597) (10 / 603).
وانظر لزاماً ترجمة الإمام وكيع بن الجراح في سير أعلام النبلاء (17/ 166)والمحنة التي حصلت له وكادت تذهب فيها نفسه! .
وختاماً أقول لقد تكلم في
العلم، وأفتى الناس من لو أمسك عن الفتيا وعن بعض ما تكلم فيه لكان
الإمساك أولى به، وأقرب لسلامة له، فا للهم إنا نشكوا إليك هذا الغثاء.
وأمثال هؤلاء المتخبطون ينبغي منعهم بل يجب، فالحجر لاستصلاح الأديان، أولى من الحجر لاستصلاح الأموال والأبدان، والله المستعان