صفات المؤمنين في بدايات سورة البقرة
صفات المؤمنين في بدايات سورة البقرة
الشيخ هشام العارف
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4).
الصفة الرابعة : وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
ومن صفات المتقين : أنهم يؤمنون بما أنزل على النبي صلى الله عليه
وسلم من القرآن والسنة، قال تعالى في سورة النساء : (..وَأَنزَلَ اللَّهُ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة..(113)َ. فالمتقون وإن كانوا آمنوا
بالغيب وهو أول مراتب الهدى ، فهم أيضاً يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول
صلى الله عليه وسلم، ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه، فيؤمنون ببعضه، ولا
يؤمنون ببعضه، إما بجحده أو تأويله على غير مراد الله ورسوله، كما يفعل
ذلك من يفعله من المبتدعة، الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم،
بما حاصله عدم التصديق بمعناها، وإن صدقوا بلفظها، فلم يؤمنوا بها إيماناً
حقيقياً.
ولفظ (الإنزال) المراد به ما ورد من جانب الربوبية الرفيع الأعلى،
وأوحى إلى العباد من الإرشاد الإلهي الأسمى، وسمي إنزالاً لما في جانب
الألوهية من ذلك العلو. علو الرب على المربوب ، والخالق على المخلوقين ،
ومن المعلوم أن الإنزال في أصل اللغة هو نقل الشيء من مكان عالٍ إلى ما
دونه، ويطلق العلو في الأمور المعنوية، فهو علو مكان وعلو مكانة. والله
سبحانه وتعالى فوق جميع خلقه بائن منهم ، بلا تشبيه ، ولا تمثيل ، لا متصل
بشيء ، ولا حال فيه، مستو على عرشه.
والمتقون يؤمنون بما أوحي للرسل وبما نزل عليهم من الكتب قبل النبي
صلى الله عليه وسلم، لذلك نص العلماء الذين هم ورثة الأنبياء في أصول
العقيدة على هذا الإيمان بقولهم : "ونحن مؤمنون بذلك كله لا نفرق بين أحد
من رسله ونصدقهم كلهم على ما جاؤوا به" . وقد أمر الله تعالى المؤمنين
بهذا الإيمان من جهات عدة:
1/ التلطف مع أهل الكتاب بهذا الإيمان من أجل إقامة الحجة؛ على اعتبار
ما جاءهم من الحق بقوله في سورة العنكبوت : (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ(46) . فالإسلام جاء مصدقاً لشرائع الله التي شرعت للأمم التي
خلت ومهيمناً عليها.
2/ ولأهمية هذا الأصل العقدي فقد جعله الله تعالى في رأس سورة البقرة وضمنه بأن جعله صفة من صفات المتقين.
3/ ونبه على عدم التفريق به؛ بقوله في خواتيم سورة البقرة : (آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ وَملائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ
رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285). فمن فرق بين كتب الله ورسله، فآمن
ببعض وكفر ببعض، كاليهود والنصارى، لا يعتد بإيمانه؛ لأنه متبع للهوى فيه،
أو للتقليد الذي هو عين الجهل والضلال.
4/ وحث عليه ؛ بقوله في سورة النساء : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ
عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ ..(136)، فنادى
الله تعالى وخاطب عباده المؤمنين كافة ؛ آمراً إياهم أن يجمعوا بين
الإيمان به ، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ خاتم النبيين، وبين جميع
الرسل الذين أرسلهم الله تعالى سابقاً. والقرآن وما أوحي إليه، وبين
الإيمان بجميع الكتب التي نزلها على رسله من قبل بعثة خاتم النبيين صلى
الله عليه وسلم؛ بأن يعلموا أن الله تعالى قد بعث قبله رسلاً، وأنزل عليهم
كتباً، وأنه لم يترك عباده في الأزمنة الماضية سدى محرومين من البينات
والهدى .
5/ وامتدح الله تعالى المؤمنين بهذا الإيمان بقوله في سورة النساء :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(152).
6/ ولأهمية هذا الإيمان فإن الله تعالى عهد للنبي محمد صلى الله عليه
وسلم به وذلك بقوله في سورة آل عمران : ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى
وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(84).
7/ كما عهد الله تعالى إلينا وذلك بقوله في سورة البقرة : (قُولُوا
آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(136).
الصفة الخامسة : وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
(الآخرة) اسم لما يكون بعد الموت، سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا،
والدنيا سميت بذلك لأنها اليوم الأدنى، وهذا الوصف داخل في الإيمان بالغيب
المتقدم في قوله : (يؤمنون بالغيب) ، وإنما أعاد ذكره اهتماماً وتأكيداً
للإيمان به، ولأن من آمن باليوم الآخر استعد له بالعمل الصالح، والتوبة من
الأعمال السيئة. والإيمان باليوم الآخر هو أحد أركان الإيمان الستة.
(هُمْ يُوقِنُونَ) قال الحرالي : "الإيقان : صفاء العلم وسلامته من
شوائب الريب ونحوه، من يقن الماء وهو ما نزل من السماء فانحدر إلى كهف جبل
فلم يتغير من قرار ولا وارد".
فهم يعتقدون اعتقاداً جازماً مطابقاً للواقع بحيث لا يطرأ عليه شك ولا
تحوم حوله شبهة ، وفي تهذيب اللغة : اليقين : إزاحة الشك وتحقيق الأمر.
والمعنى : وبالدار الآخرة وما فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب هم
يوقنون إيقاناً قطعياً، لا أثر فيه للإدعاءات الكاذبة، والأوهام الباطلة.
فالوصف الذي يمتاز به أهل القرآن هو اليقين ، ولا يكون اليقين إلا حيث
يكون القطع، وأما الظن فهو وصف من عابهم القرآن وأزرى بهم، فلا علاقة له
بأحوالهم.
وقد أخرج ابن رستة الحافظ في كتابه "الإيمان" وصححه ابن حجر في "تغليق
التعليق" (2/22) وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (3397) عن علقمة عن عبد
الله : "الصبر نصف الإيمان ، واليقين الإيمان كله".
قال ابو حيان : "وذكر لفظة (هم) في قوله : (وبالآخرة هم يوقنون) ولم
يذكرها في قوله : (ومما رزقناهم ينفقون) لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من
وصفهم بالإنفاق فاحتاج هذا إلى التوكيد".
أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(5).
أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ : فهؤلاء الموصوفون بتلك
الصفات الحميدة المتقدمة، (عَلَى هُدًى) عظيم، فهم على نور، وبيان، وبصيرة
من الله تعالى، وبرهان، واستقامة، وسداد بتسديده إياهم وتوفيقه لهم. فهم
في الدنيا يسيرون على طريق صحيح واضح لا اعوجاج فيه.
وأتى بـ (على) ليدل على الاستعلاء، لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى،
مرتفع به. أما صاحب الضلال فهو منغمس فيه محتقر كما قال تعالى : (وَإِنَّا
أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(24) ونكر الله
تعالى الهدى للتعظيم، إشعاراً بأنهم تمكنوا منه تمكن من استعلى على الشيء
وصار في قرار راسخ منه، وزاد في تعظيمه بقوله (من ربهم) أي: المحسن إليهم
بتمكينهم منه ولزومهم له ، فهم على هدى من ربهم ، وأي هداية أعظم من تلك
الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة، والأعمال المستقيمة، وهذا يدل
على مدى عناية الرب تعالى بهم.
وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ : وفي تكرير (أولئك) وكونها للبعد
إعلام بعلو مقامهم ، وتنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى، فقد
ثبت لهم الاختصاص بالفلاح ، وحصر الفلاح فيهم ، أما غيرهم فلا فلاح ولا
صلاح لهم، والمفلحون من الإفلاح وهو الفوز والنجاة ونوال البقاء الدائم في
الخير، وقال الزجاج: المفلح: الفائز بما فيه غاية صلاح حاله، قال ابن
الأنباري : ومنه: حي على الفلاح، معناه: هلموا إلى سبيل الفوز ودخول
الجنة. وقيل معناه الشق والقطع، مثلما يقال : أفلح الأرض أي شقها لتكون
صالحة للإنبات والزرع . فالفالح يضع في الدنيا بذور الحق في تربة الابتلاء
فتنضج بإذن الله تعالى ويجعل الله فيها البركة فهو لاجتهاده في توحيد
الله تعالى وطاعته، وصبره على ابتلاء الله له من حيث تكاليف الأوامر
والنواهي ، يجد عوناً من الله تعالى في دنياه، ويفوز بحصاده في الآخرة .
قال قتادة : "قوم استحقوا الهدى والفلاح بحق، فأحقه الله لهم، وهذا نعت
أهل الإيمان". وقال ابن جرير: (المفلحون) "أي: المنجحون المدركون ما طلبوا
عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله من الفوز بالثواب، والخلود
في الجنات والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب". وقال ابن قتيبة:
(المفلحون) : الفائزون ببقاء الأبد، وأصل الفلاح: البقاء.