ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون
ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون
عبد الله عيسى
يرتكبُ
الطُّغاة من الآثامِ ما لا يُمكِنُ تصوره بالفعل، ولكنَّهم في غيبةِ عن
الوعي السَّليم، فللطغاة منطقُهم الشاذ، غير أنَّهم يدركون الحقيقةَ بعد
فواتِ الأوان، وحين لا ينفع النَّدم، ولا يبقى أمامه إلا أن يواجِه
العقابَ، وأشدُّ ألوان العقاب هو عقابُ السماء، صحب سعيدُ بنُ جبير حبرَ
الأمة عبدَالله بنَ عباس، ودرس الفقهَ دراسةً وافية مما أهله أن يجلسَ
للفتوى بالكوفة، حتى إنَّ الذين درسوا سيرةَ حياته وفقهه يحدثوننا على
أنَّه كان بدايةَ عصرٍ مهدت الطريقَ للمذاهب الفقهية التي يعتمد بعضُها على
الحديثِ، والبعض الآخر على الرأي.
و"سعيد" قد بلغ من علمه
وفتواه أنْ قال عنه حصيف: "أعلمُ التابعين بالطَّلاق سعيد بن المسيب،
وبالحجِّ عطاء، وبالحلال والحرام طاوس، وبالتفسير مجاهد، وأجمعهم لذلك
كلِّه سعيدُ بن جبير"، فهو رجلٌ شجاعُ العقلِ والقلب، اجتمع عليه الفقهاء،
على أنَّه بجانب ورعه وتقواه لا يخشى في الله لومةَ لائم، وكان من
الطَّبيعي وهو يرى الدِّماء تسفكُ وآلاف النَّاس تعيش بين أسوار السُّجون
والمعتقلات بلا جريرةٍ على يد الحجَّاج.
وقرَّر أنْ يواجهَ
الطَّاغية، حتَّى لو كانت في مواجهته النهايةُ المحتومة، فقد روى
المؤرِّخون أنَّ سعيد بن جبير كان ينهى الحجَّاج عن الظُّلم والبطش، وكان
ينصحُ النَّاسَ بمخالفتِه وبالوقوف في وجهِه، وضاق الحجاجُ ذرعًا بتصرفات
سعيد - رضي الله عنه - وقصتُه والحوار الذي دار بينه وبين الحجاجِ معروفةٌ
ومعلومةٌ للجميع، والتي انتهتْ بقتل سعيد - رضي الله عنه - بعدما دعا على
الحجاج، وقال خذْها مني يا عدو الله حتى نتلاقى يومَ الحساب: "اللهم اقصم
أجلَه، ولا تسلِّطْه على أحدٍ يقتله من بعدي".
وصعدت دعوة سعيد إلى
السماء، فلقيت قبولاً واستجابة من الله الواحدِ القهَّار، فلقد أُصيبَ
الحجَّاجُ بعد قتله لسعيد بن جبير بمرضٍ عضال أفقدَه عقلَه، وصار كالذي
يتخبَّطُه الشَّيطان من المسِّ، وكان كُلَّما أفاق من مرضه قال بذعر: مالي
ولسعيد بن جبير، وبعد فترةٍ قصيرة من قتل سعيد بن جبير مات الحجَّاج
الثقفي شرَّ موتة، وتحقَّقتْ دعوةُ سعيدٍ فيه فلم يسلطه الله على أحدٍ
يقتله من بعده.
وصدق رسولُ الله - صلى
الله عليه وسلم - إذ يقول: ((ثلاثةٌ لا تردُّ دعوتُهم: الصائمُ حتى يفطر،
والإمامُ العادل، ودعوةُ المظلوم يرفعها اللهُ فوقَ الغمام، ويفتحُ لها
أبوابَ السَّماءِ ويقول الربُّ: وعزتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين))؛
رواه الترمذي وضعفه الألباني، ويشهد لصحة متنه أحاديث أخر.
وأيضًا عندما نشاهد قصةَ
سيدنا إبراهيم - عليه السلام - مع النمرود عندما طغى وتجبَّر، وقصةَ سيدنا
موسى مع فرعونَ عندما كفر واستكبر، سنجد أنهم لم يعملوا العقلَ في الحقِّ
الذي أمامهم ولكنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوبُ التي في الصدور.
وإنَّ تأخيرَ العذاب عن
الظَّلَمة في كلِّ زمانٍ ومكان لم يكن غفلةً عنهم، وإنما هو تأخيرُهم إلى
يوم القيامة أو إلى أن يحين الوقتُ المحدَّدُ لأخذهم، وفي هذه الأيام
يعتبرُ كلُّ سلطانٍ أو رئيس أنه هو الحاكمُ بأمر الله، الآمر الناهي الذي
يبرِئُ الأكمهَ والأبرص ويحيي الموتى، وهو الوحيدُ الذي يعلمُ مصلحةَ
شعبِه أكثرَ من شعبه نفسِه، وإنَّ ما حدث من الثورات والتظاهرات في مصر
والدول العربية الأخرى كان القشةَ التي قصمتْ نظامًا أكله السوس وافتقد
لأيِّ نوع من المشروعية