خطبة ومضى الثلث الأول من رمضان
(الخطبة الأولى )
أما بعد:
معاشرالمسلمين :
ما أسرع ما تمضي الأيام.. شهر رمضان، ضيف كريم استقبلناه بالأمس، وها هو اليوم قد إنقضى الثلث الأول منه، وهل فينا من قام فيه بما عرف؟ وتشوقت نفسه لنيل الشرف؟
فاغتمنوا فرصة تمرُّ مرَّ السحاب، وادخلوا قبل أن يُغلق الباب.. فإنه يوشك الضيف أن يرتحل، وشهر الصوم أن ينتقل، فأحسنوا فيما بقي، يُغفَر لكم ما مضى، فإن أسأتم فيما بقي أُخذتم بما مضى وبما بقي.
رحل ثلث رمضان، وبين صفوفنا الصائم العابد، الباذل المنفق الجواد، نقي السريرة، طيب المعشر، فهنيئاً لهؤلاء العاملين ما ادخروه عند رب العالمين.
رحل ثلث رمضان، وبين صفوفنا صائم عن الطعام والشراب، يبيت ليله يتسلى على أعراض المسلمين، وتقامر عينه شهوة محرمة يرصدها في ليل رمضان، يده امتدت إلى عاملٍ مسكين فأكلت ماله، أو حفنةِ ربا فأخذتها دون نظر إلى عاقبة، أو تأمل في آخرة.
رحل ثلث رمضان، وبين صفوفنا من فاتته صلوات وجماعات، قد آثر النوم والراحة على كسب الطاعات.. وبين صفوفنا بخيلٌ شحيح، أسودُ السريرة، سيءُ المعشر، دخيلُ النية، فأحسن الله عزاء هؤلاء جميعاً في ثلثهم الأول، وجبرهم في مصيبتهم، وأحسن الله لهم استقبال ما بقي لهم.
أيها المفرطون في شهر رمضان القائم، هل أنتم على يقين من العيش إلى رمضان قادم؟! فقوموا بحق شهركم، واتقوا الله في سرِّكم وجهركم، واعلموا أن عليكم ملكين يصحبانكم طول دهركم، ويكتبان كل أعمالكم، فلا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم.
إن أيام رمضان يجب أن تُعظَّم وتصان، وتُكرَّم ولا تُهان، فهل حبستم غرضكم فيها عن فضول الكلام والنظر؟! وكففتم جوارحكم عن اللهو والعبث؟! واستعددتم من الزاد ما يصلح للسفر؟! أم أنتم ممن تعرض في هذا الشهر للمساخط، وقارف المظالم والمساقط.
كان قتادة رحمه الله يقول: كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له.
أيها الإخوة المؤمنون:
إننا مسؤولون عن هذه الأوقات من أعمارنا، في أي مصلحة قضيناها؟ أفي طاعة الله وذكره، وتلاوة كتابه وتعلم دينه، أم قضيناها في المقاهي وأمام القنوات، أو في اللهو واللعب الذي لا يعود علينا بكبير فائدة، بل هو من أسباب البعد عن الله تعالى.
فلنستدرك باقي الشهر، فإنه أشرف أوقات الدهر، هذه أيام يحافظ عليها وتصان، هي كالتاج على رأس الزمان، ولنعلم أننا مسؤولون عما نضيعه من أوقات وأحيان.
أيها المؤمنون:
إن شهر رمضان شهر العتق من النيران، شهر فكاك الرقاب من دار الشقاء والحرمان، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "لله عز وجل عند كل فطر عتقاء" [أخرجه أحمد والطبراني وحسنه الألباني.. وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند أحمد وصححه الألباني: "إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة يعني في رمضان وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة.
فاجتهدوا – يا رعاكم الله – ما استطعتم في إعتاق رقابكم، وفكاك أبدانكم، وشراء أنفسكم من الله جل جلاله.
أيها المؤمنون:
هذا أوآن التوبة والاستغفار، والأوبة والانكسار.
متى يتوب، من لم يتب في رمضان؟ ورغم أنف رجل أدرك رمضان فلم يغفر له.
إن رمضان فرصة للمذنبين.. فالشياطين مصفدة.. وشهوات النفس مقيدة.. والنفحات ممنوحة.. وأبواب الجنة مفتوحة.
قال ابن رجب: وما في هذه المواسم الفاضلة موسمٌ إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات. اهـ
وقد روى الطبراني وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده".
الله أكبر.. هذه نفحات الرحيم قد تنزلت.. هذه نسمات الأنس قد هبت.. هذه بساتين الجنان قد تزينت.. وجدير بالمؤمن أن يشمر ويجتهد.. وحري بالغافل أن يعاجل، وجدير بالمقصر أن يشمر. وأن يقصر عن التقصير في الشهر القصير.
عباد الله:
ونحن نرى الناس في هذه الأيام يتهافتون على استثمارات الدنيا، من الأسهم والعقارات، والمصالح والتجارات.. ما أحرانا أن نستثمر رمضان بالأعمال الصالحة، والتجارة الرابحة.. وإليكم بعض فرص الاستثمار الرابح.
فمن فرص الاستثمار الرابح في رمضان: بذل المعروف، ومد يد العون للمحتاجين، ورعاية الضعفاء والمعوزين.. فقد كان نبيك صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقى جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة كما يقول ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث في الصحيحين.
ومن فرص الاستثمار الرابح: صلاة القيام، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه).. وأخبر صلى الله عليه وسلم (أن من من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة).. فهنيئاً للقائمين.
ومن فرص الاستثمار في رمضان: صلة الأرحام، وتحقيق معالم التواصل المفقود في حياة الكثير منا.
ومن فرص الاستثمار في رمضان: توسيع دائرة الأخلاق في التعامل مع الآخرين، فإن دائرة الأخلاق من أوسع الدوائر التي يلج منها الصائم إلى رضوان الله تعالى، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم عند الترمذي وغيره: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن).
إن صاحب الأخلاق الفاضلة يزيده رمضان عطفاً على الآخرين، واحتراماً لهم، وتقديراً لظروفهم.. لا كما يفعله بعض الناس ممن تضيق أخلاقهم عند الصوم.
ومن فرص الاستثمار في رمضان: العمرة في رمضان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما.
وقال صلى الله عليه وسلم لأم معقل رضي الله عنها: (عمرة في رمضان تقضي حجة أو قال: كحجة معي).
ويمكن للمستثمر أن يوسّع دائرة الأجر بالمساهمة في معونة المحتاجين ليؤدوا العمرة.
ومن فرص الاستثمار في رمضان: تبنّي بعض الأعمال الدعوية والاجتماعية، كتعليم كتاب الله تعالى، وعمل المسابقات التربوية والاجتماعية للأسر أو الشباب، وإقامة رحلات العمرة، ونحو ذلك من الأعمال النافعة.
ومن فرص الاستثمار في رمضان: إحياء شعيرة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فإنها من السنن التي كان يحافظ عليها نبي الهدى صلى الله عليه وسلم.
ألا فانتهزوا رحمكم الله هذه الفرص العظيمة، وما تقدوموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم).. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فأستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
(الخطبة الثانية)
الحمد لله على إحسانه والشكر على توفيقه وإمتنانه ، وأشهد أن محمدآ عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
عباد الله:
ومن فرص الاستثمار الرابح في رمضان: العناية بالقرآن الكريم حفظاً وتلاوة وتفسيراً.
رمضان شهر تلاوة القرآن، وتدبُّر آي الفرقان، بمدارسة معاني الألفاظ، والرجوع إلى أهل العلم من القراء والحفاظ.
لقد شرفكم الله تعالى وتبارك، بهذا الكتاب المبارك، فتدبروا آياته، وتفكروا في بيِّناته، وقفوا عند عظاته،.
لقد كان السلف الكرام رحمهم الله يكثرون من ختم القرآن، فإذا جاء رمضان إزدادوا من ذلك لشرف الزمان، وكان جبريل عليه السلام يلقى رسول الله في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن. وفي آخر عام من حياة سيد الأنام، عارضه جبريل القرآن مرتين على التمام.
وكان الأسود التابعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان كل ليلتين، وكان يختم في غير رمضان كل ست ليال.
وكان قتادة رحمه الله يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة.
وكان الشافعي رحمه الله يختم في شهر رمضان ستين ختمة.
قال النووي: وأما الذي يختم القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمن المتقدمين عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير رضي الله عنه ختمة في كل ركعة في الكعبة.
قال الذهبي: قد روي من وجوه متعددة أن أبا بكر بن عياش مكث نحواً من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة، ولما حضرته الوفاة بكت أخته فقال: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة.
عباد الله:
إن رمضان فرصة حقيقية للاستثمار الرابح مع الله، واللبيب يدرك بصدق أن الفرص تلوح، وقد لا تعود، فاستثمروا رحمكم الله ما بقي من حياتكم.. وتزودوا لمعادكم قبل مماتكم.. (واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه، وبشر المؤمنين)
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية...