فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا
فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا
خميس النقيب
يروى أن
امرأة عجوز فقيرة بَنَت كوخاً لها في مكان خالٍ، فجاء أحد الأمراء وبنى
قصرا مشيدا بجوار الكوخ الذي تملكه العجوز الفقيرة، وفي ذات يوم طاف
الأمير بقصره فرآه جميلا، ورأى هذا الكوخ، فقال لأحد جنوده: لمن هذا
الكوخ؟ فقال: لعجوز. قال: ألا ترون أنه يقبح منظر القصر؟ قالوا: بلى، قال:
انسفوه وامحقوه، فنسفوا الكوخ، ورجعت العجوز من عملها فلم ترَ كوخها،
فسألت: مَن أزاله؟ فقالوا: الأمير، قالت: ولم؟ قالوا: إنه يرى أنه يقبِّح
منظر القصر، فقالت بيقين: أنا كنت غائبة، فأين كنت أنت يا رب العالمين؟
فقلب الله القصر على من فيه (الكبائر للذهبي).
نعم، كم من ظالم مستبد يحتاج إلى عجوز مخلصة مثل هذه، ودعاء نافذ مثل هذا..
نعم: ((اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا؛ فإنه ليس دونها حجاب)) (صحيح الجامع: 119).
إن اليهود ظلموا غيرهم،
ونقضوا عهودهم، وبدلوا وحيهم، وهم في المدينة المنورة "يثرب" ظنوا أن
حصونهم التي بنوا وشيدوا، تمنعهم من الانتقام الإلهي، وقالوا من يصل
ألينا؟ من يخرجنا؟ من يزلزل قواعدنا؟ وأيقنوا أن لا أحد مهما كان أن يفعل
ذلك، وتسرب هذا الظن، بل ربما اليقين إلى بعض ضعاف القلوب من المؤمنين،
لكنَّ الله - عز وجل - وهو القوي القاهر، العليُّ القادر، أتاهم من حيث لم
يحتسبوا! وما يعلم جنودَ ربك إلا هو، أتاهم من داخل قلوبهم لا بيوتهم! من
داخل نفوسهم لا قصورهم: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) فراحوا:
(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ)؟!!.
سجَّل القرآن هذا الحدث
في صدر سورة الحشر: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن
يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم منَ اللَّهِ
فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)[الحشر: 1-2]، وختم
هذا الحدث بقوله: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ).
الذين لهم أبصار أو عقول
يعتبروا! يعتبروا فلا يَظلموا! إن الظلم عواقبه وخيمة، وإن الله - تعالى
-حرَّم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرما، فقال في الحديث القدسي عن
أبى ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله- تبارك وتعالى - قال:
((يا عبادي: إني قد حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم فلا
تظالموا..)) (صحيح في الأدب المفرد).
هل يعتبر الطغاة؟! إنهم
تجبروا وتجذروا وظلموا العباد ونشروا الفساد!! أسَّسوا تراكمات من الظلم
والاستبداد طوال عقود كثيرة، ولم يستمعوا لغيرهم، ولم يراجعوا أنفسهم، ولم
يلتفتوا لشعوبهم، بل جوَّعوهم وقمعوهم وقيدوهم بالغلاء الملتهب،
والاستبداد المطرد، والظلم المتفشي، لا حرية شخصية ولا عدالة اجتماعية،
ولا بنية تحتية، ولا طفرة اقتصادية وإنما حكومات عينت فقط من أجل أهدافها
وثرواتها!.
راحت تنهب وتسرق وتغش
وتزوِّر أمام أعين الشعوب المهضومة، فثارت واستشاطت غضبا، مطالِبة برحيل
الاستبداد والمستبدين، والظلم والظالمين! ماذا كانت النتيجة: (فَأَتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ)، أدخل الله بثورة هؤلاء المظلومين الرعب في قلوب الظالمين،
فارتبكوا وهربوا وربما صعب عليهم أن يستسلموا بدون مزيد من الخراب فأصدروا
أوامرهم لبقاياهم أن تنهب وتدمر وتسرق - على حد قول وكالات الأنباء
الرسمية وغير الرسمية - يعني أفسدوا ونهبوا وشوهوا صورة البلد بأوامرهم
الخبيثة، وأفعالهم الخسيسة!! لكن الشباب الرائع أغلق هذه الأبواب، وكوَّن
لجاناً شعبية مدنية في كل أنحاء القطر المصري، تحمي البلاد والعباد،
تصدَّوا للمخرِّبين وأمسكوا يبعضهم وسلَّموهم وباتوا يحمون المنشآت
والمحلات والمنازل وفوتوا على هؤلاء فرصة كانوا يؤملونها نحن أو البلد
تخرب لا تشعر بالفرح إلا إذا عرفت الحزن، ولا ترى النجاح إلا إذا ذقت
الجد، كذلك لا يأتي النصر بدون تضحيات وآلام ودماء وشهداء.، تحية لشباب
الأمة، وتحية لشهداء الثورة!! ثورة الشباب كما أُحب أن أسميها وسأفرد
مقالةً بعنوان ثورة الشباب بإذن الله - لأنهم يستحقون لا أقول مقالات بل
مجلدات -، هم من تواصلوا عبر الفيس بوك، وهم من تجمعوا أولا، وهم من نادوا
بمطالب الإصلاح، والتاريخ سيكتب لهم، بل قلوب المصريين جميعا ستحفظ لهم
هذا الصنيع المجيد! أما الذين استبدوا وأفسدوا وكانوا يظنون أنهم شرعيون،
بل وصدعوا رؤوسنا بذلك فإلي مزبلة التاريخ، وإلى القوائم السوداء، تلعنهم
الأيادي البيضاء، ويلعنهم رب الأرض والسماء!!? (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)[الشعراء: 227].
اللهم جنب أوطاننا الشقاء
والبلاء، واجعل سائر بلاد المسلمين سخاء رخاء، اللهم ولِّ أمورنا خيارنا
ولا تولِّ أمورنا شرارنا، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رُشد يعز فيه أهل
طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك.
اللهم سدد خطانا إليك،
شرفنا بالعمل لدينك، ووفقنا للجهاد في سبيلك، امنحنا التقوى واهدنا السبيل
وارزقنا الإلهام والرشاد، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا
تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى
آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين