س: أنا زوجة لرجل
موسر، له عقارات ورصيد في البنوك،
ولكنه مريض بالبخل، لا تخرج النقود
من يده إلا بعد معاناة وجهد. وقد
انعكس هذا على حياتي، فلا يعطيني
لنفقة البيت إلا النزر اليسير،
الذي لا يلائم حال رجل في مثل
مركزه. ولهذا أرى بيوت كثير من
الناس المحدودي الدخل خيرا من
بيتي، وأرى نساءهم أحسن مظهرا مني:
في الملابس والحلي وسائر ما تحتاج
إليه المرأة في عصرنا. وأرى
أولادهم أيضا خيرا من أولادي.
فهل يجيز الشرع لهذا
الزوج أن يضيق علينا وقد وسع الله
عليه، وآتاه من فضله الشيء الكثير؟
وماذا تصنع الزوجة
إذا قتر عليها زوجها في النفقة،
أترفع أمرها إلى المحكمة، وفي ذلك
ما فيه من فضيحة اجتماعية، قد تهدم
الحياة الزوجية من الأساس؟ أم تأخذ
من مال الزوج -إن استطاعت- بدون
إذنه ولا علمه؟ وهل تعد آثمة في هذه
الحال لأنها أخذت مالا بغير إذن
مالكه؟ وما الحل إذن؟
ج : مما يؤسف له أن
نجد كثيرا من الأزواج في هذه
القضية على طرفي نقيض. فبينما نجد
فريقا يرخي العنان للزوجة، تبذر
وتبعثر، وتنفق على نفسها كيف تشاء
فيما ينفع وما لا ينفع، وما يحتاج
وما لا يحتاج إليه. المهم أن تشبع
غرورها وترضي طموحها، في السباق
المجنون على أحدث الأزياء، وأطرف
ما ابتدعته أوروبا وأمريكا دون نظر
إلى مصلحة عائلية أو وطنية أو
قومية. ولا اعتبار لما يخبئه الغد
من مفاجآت.. تجد مقابل هذا الفريق
فريقا آخر يقتر على الزوجة، ويضيق
عليها الخناق، فلا يعطيها ما
يكفيها، ويشبع حاجاتها المعقولة
بالمعروف.
مع
أن الله سبحانه وتعالى أوجب في
كتابه التوسط بين الإسراف
والتقتير في الإنفاق، فقال سبحانه:
(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، ولا
تبسطها كل البسط، فتقعد ملوما
محسورا) ووصف عباد الرحمن بقوله:
(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم
يقتروا وكان بين ذلك قواما).
ولم
يحدد الشرع في النفقة على المرأة
مقدارا معينا من الدراهم أو غيرها.
بل الواجب هو تلبية حاجتها
بالمعروف. والحاجة تختلف من عصر
لآخر، ومن بيئة لأخرى، ومن وسط
لآخر، ومن رجل لآخر. فالمدنية غير
الريفية، والحضرية غير البدوية،
والمثقفة غير الأمية، والناشئة في
بحبوحة النعيم غير الناشئة في
خشونة الشظف، وزوجة الثري غير زوجة
المتوسط، غير زوجة الفقير. وقد
أشار القرآن إلى شيء من ذلك. فقال:
(لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر
عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله،
لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها).
وفي
متعة المطلقة نبه على هذا المعنى
فقال: (ومتعوهن على الموسر قدره
وعلى المقتر قدره، متاعا
بالمعروف، حقا على المحسنين).
وما
أجمل ما ذكر الإمام الغزالي في
"الإحياء" من آداب النكاح عن
الاعتدال في النفقة حيث قال: فلا
ينبغي أن يقتر عليهن في الإنفاق،
ولا ينبغي أن يسرف، بل يقتصد قال
تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا)
وقال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة
إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) وقد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"خيركم خيركم لأهله" وقال صلى
الله عليه وسلم: "دينار أنفقته
في سبيل الله (أي في الجهاد) ودينار
أنفقته في رقبة (أي في العتق)
ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار
أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي
أنفقته على أهلك" وقيل: كان لعلي
أربع نسوة، فكان يشتري لكل واحدة
في كل أربعة أيام لحما بدرهم.
وقال
ابن سيرين: يستحب للرجل أن يعمل
لأهله في كل جمعة فالوذجه (نوعا من
الحلوى) قال الغزالي: وكأن الحلاوة
وإن لم يكن من المهمات ولكن تركها
بالكلية تقتير في العادة.
ولا
ينبغي أن يستأثر عن أهله بمأكول
طيب، فلا يطعمهم منه، فإن ذلك مما
يوغر الصدور، ويبعد عن المعاشرة
بالمعروف، فإن كان مزمعا على ذلك،
فليأكل بخفية، بحيث لا يعرف أهله
ولا ينبغي أن يصف عندهم طعاما ليس
يريد إطعامهم إياه. وإذا أكل فيقعد
العيال كلهم على مائدته…ألخ".
ولكن
ما الذي يفرضه الشرع للزوجة من
النفقة ومطالب المعيشة؟
لنسمع
ما يقوله في ذلك الفقه المستند إلى
الكتاب والسنة..
قال
شيخ الإسلام ابن قدامة الحنبلي في
كتابه "الكافي":
"يجب
للمرأة من النفقة قدر كفايتها
بالمعروف، لقول النبي صلى الله
عليه وسلم لهند: "خذي ما يكفيك
وولدك بالمعروف" ولأن الله قال:
(وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن
بالمعروف) والمعروف: قدر الكفاية،
ولأنها واجبة لدفع الحاجة. فتقدرت
بالكفاية كنفقة المملوك فإذا ثبت
أنها غير مقدرة، فإنه يرجع في
تقديرها إلى الحاكم (أي القاضي)
فيفرض لها قدر كفايتها من الخبز
والأدم.
ويجب
لها في القوت الخبز، لأنه المقتات
في العادة.
وقال
ابن عباس في قوله تعالى: (من أوسط ما
تطعمون أهليكم) الخبز والزيت. وعن
ابن عمر: الخبز والسمن، والخبز
والزيت، والخبز والتمر. ومن أفضل
ما تطعمهم: الخبز واللحم.
ويجب
لها من الأدم بقدر ما تحتاج إليه من
أدم البلد: من الزيت والسيرج
والسمن واللبن واللحم، وسائر ما
يؤتدم به، لأن ذلك من النفقة
بالمعروف، وقد أمر الله تعالى
ورسوله به.
ويختلف
ذلك بيسار الزوج وإعساره، لقوله
تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته ومن
قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه
الله، لا يكلف الله نفسا إلا ما
آتاها) وتعتبر حال المرأة أيضا،
لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"خذي ما يكفيك وولدك
بالمعروف" فيجب للموسرة تحت
الموسر من أرفع خبز البلد وأدمه
بما جرت به عادة مثلها ومثله،
وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز
البلد وأدمه على قدر عادتهما،
وللمتوسطة تحت المتوسط.
وإذا
كان أحدهما غنيا والآخر فقيرا ما
بينهما كل على حسب عادته، لأن
إيجاب نفقة الموسرين على المعسر،
وإنفاق الموسر نفقة المعسرين، ليس
من المعروف، وفيه إضرار بصاحبه.
وتجب
الكسوة للآية والخبر، ولأنه يحتاج
إليها لحفظ البدن على الدوام،
فلزمته كالنفقة ويجب للموسرة تحت
الموسر من رفيع ما يلبس في البلد من
الإبريسم والخز والقطن والكتان،
وللفقيرة تحت الفقير من غليظ القطن
والكتان، وللمتوسطة تحت المتوسط،
أو إذا كان أحدهما موسرا، والآخر
معسرا، ما بينهما على حسب عوائدهم
في الملبوس، كما قلنا في النفقة.
ويجب
لها مسكن، لأنها لا تستغني عنه
للإيواء، والاستتار عن العيون،
للتصرف والاستمتاع ويكون ذلك على
قدرهن، كما ذكرنا في النفقة.
وإن
كانت ممن لا يخدم نفسها، لكونها من
ذوات الأقدار، أو مريضة، وجب لها
خادم، لقوله تعالى: (وعاشروهن
بالمعروف) وإخدامها من العشرة
بالمعروف، ولا يجب لها أكثر من
خادم، لأن المستحق خدمتها في
نفسها، وذلك يحصل بخادم واحد، ولا
يجوز أن يخدمها إلا امرأة، أو ذو
رحم محرم، أو صغير".
وقال
صاحب (الروضة الندية) في بيان ما
يجب للزوجة على الزوج من النفقة:
"هذا
يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة،
والأحوال والأشخاص. فنفقة زمن
الخصب، المعروف فيها غير المعروف
في زمن الجدب.
ونفقة
أهل البوادي، المعروف فيها ما هو
الغالب عندهم، وهو غير المعروف من
نفقة أهل المدن.
وكذلك
المعروف من نفقة الأغنياء، على
اختلاف طبقاتهم، غير المعروف من
نفقة الفقراء، والمعروف من نفقة
أهل الرياسات والشرف، غير المعروف
من نفقة أهل الوضاعات.
فليس
المعروف المشار إليه في الحديث، هو
شيء متحد، بل مختلف باختلاف
الاعتبار".
وذكر
الإمام الشوكاني في كتابه
"الفتح الرباني" اختلاف
المذاهب في تقدير النفقة بمقدار
معين، وعدم التقدير. فذهب جماعة من
أهل العلم. وهم الجمهور -إلى أنه لا
تقدير للنفقة إلا بالكفاية. وقد
اختلفت الرواية عن الفقهاء
القائلين بالتقدير فقال الشافعي:
على المسكين المتكسب مد، وعلى
الموسر مدان، وعلى المتوسط مد
ونصف. وقال أبو حنيفة: على الموسر
سبعة دراهم إلى ثمانية في الشهر،
وعلى المعسر أربعة دراهم إلى خمسة.
قال بعض أصحابه: هذا التقدير في وقت
رخص الطعام. وأما في غيره فيعتبر
بالكفاية.
قال
الشوكاني: "والحق ما ذهب إليه
القائلون بعدم التقدير، لاختلاف
الأزمنة والأمكنة والأحوال
والأشخاص، فإنه لا ريب أن بعض
الأزمنة قد يكون أدعى للطعام من
بعض، وكذلك الأمكنة، فإن بعضها قد
يعتاد أهله أن يأكلوا في اليوم
مرتين، وفي بعضها ثلاثا، وفي بعضها
أربعا. وكذلك الأحوال، فإن حالة
الجدب تكون مستدعية لمقدار من
الطعام أكثر من المقدار الذي
تستدعيه حالة الخصب. وكذلك
الأشخاص، فإن بعضهم قد يأكل الصاع
فما فوقه، وبعضهم قد يأكل نصف صاع،
وبعضهم دون ذلك.
وهذا
الاختلاف معلوم بالاستقراء التام،
ومع العلم بالاختلاف يكون التقدير
على طريقة واحدة ظلما وحيفا.
ثم
إنه لم يثبت في هذه الشريعة
المطهرة التقدير بمقدار معين قط،
بل كان صلى الله عليه وسلم يحيل على
الكفاية مقيدا لذلك بالمعروف، كما
في حديث عائشة عند البخاري ومسلم
وأبي داود والنسائي وأحمد بن حنبل
وغيرهم: "أن هندا قالت: يا رسول
الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس
يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما
أخذت منه وهو لا يعلم. فقال: خذي ما
يكفيك وولدك بالمعروف".
فهذا
الحديث الصحيح، فيه الإحالة على
الكفاية، مع التقييد بالمعروف،
والمراد به الشيء الذي يعرف وهو
خلاف الشيء الذي ينكر، وليس هذا
المعروف الذي أرشد إليه الحديث
شيئا معينا ولا المتعارف بين أهل
جهة معينة، بل هو في كل جهة باعتبار
ما هو الغالب على أهلها، المتعارف
بينهم.
ويعتبر
في كل محل بعرف أهله، ولا يحل
العدول عنه إلا مع التراضي. وكذلك
الحاكم، يجب عليه مراعاة المعروف
بحسب الأزمنة والأمكنة، والأحوال
والأشخاص، مع ملاحظة حال الزوج في
اليسار والإعسار، لأن الله تعالى
يقول: (على الموسع قدره وعلى المقتر
قدره) وإذا تقرر لك أن الحق عدم
جواز تقدير الطعام بمقدار معين،
فكذلك لا يجوز تقدير الإدام بمقدار
معين، بل المعتبر الكفاية
بالمعروف.
وقد
حكى صاحب البحر: أنه قدر في اليوم
أوقيتان دهنا من الموسر، ومن
المعسر أوقية، ومن المتوسط أوقية
ونصف".
"وفي
شرح الإرشاد أنه يعتبر في الإدام
تقدير القاضي باجتهاده عند
التنازع، فيقدر في المد من الإدام
ما يكفيه، ويقدر على الموسر ضعف
ذلك، وعلى المتوسط بينهما، ويعتبر
في اللحم عادة البلد للموسرين
والمتوسطين كغيرهم".
قال
الرافعي: "وقد تغلب الفاكهة في
أوقاتها فتجب…"
قال
الشوكاني: "المرجع ما هو معروف
عند أهل البلد في الإدام جنسا
ونوعا وقدرا، وكذلك في الفاكهة لا
يحل الإخلال بشيء مما يتعارفون به
وإن قدر من تجب عليه النفقة من ذلك،
وكذلك ما يعتاد من التوسعة في
الأعياد ونحوها، ويدخل في ذلك مثل
القهوة والسليط. وبالجملة فقد أرشد
الشارع إلى ما هو معروف من
الكفاية، وليس يعد هذا الكلام
الجامع المفيد شيء من البيان".
ثم
الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم:
"خذي ما يكفيك وولدك
بالمعروف" إن ذلك غير مختص بمجرد
الطعام والشراب، بل يعم جميع ما
يحتاج إليه، فيدخل تحته الفضلات
(الكماليات) التي قد صارت
بالاستمرار عليها مألوفة، بحيث
يحصل التعذر بمفارقتها أو التضجر
أو التكدر. ويختلف ذلك باختلاف
الأشخاص والأزمنة والأمكنة
والأحوال، ويدخل فيه الأدوية
ونحوها، وإليه يشير قوله تعالى:
(وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن
بالمعروف) فإن هذا نص في نوع من
أنواع النفقات إن الواجب على من
عليه النفقة رزق من عليه إنفاقه،
والرزق يشمل ما ذكرناه.
قال
في الانتصار: ومذهب الشافعي، لا
تجب أجرة الحمام وثمن الأدوية،
وأجرة الطبيب، لأن ذلك يراد لحفظ
البدن، كما لا يجب على المستأجر
أجرة إصلاح ما انهدم من الدار.
وقال
في الغيث: الحجة أن الدواء لحفظ
الروح فأشبه النفقة انتهى.
قلت:
هو الحق لدخوله تحت عموم قوله:
"ما يكفيك" وتحت قوله:
"رزقهن" فإن الصيغة الأولى
عامة باعتبار لفظ (ما)، والثانية
عامة، لأنها مصدر مضاف، وهي من صيغ
العموم واختصاصه ببعض المستحقين
للنفقة لا يمنع من الإلحاق انتهى
كلام الإمام الشوكاني وقد نقله
السيد صديق حسن خان في (الروضة
الندية).
وبهذا
البيان يتضح للأخت السائلة الجواب
عن سؤالها بشقيه، وفي جوابه صلى
الله عليه وسلم لهند في موقفها من
زوجها أبي سفيان وشحه: "خذي ما
يكفيك وولدك بالمعروف" وفيما
نقلناه من كلام العلماء حول المراد
ب (الكفاية) و(المعروف) ما ينير
الطريق أمام صاحبة الاستفتاء هنا،
كيف تتصرف مع زوجها البخيل عليها.
أجل فيما قدمنا من البيان ما يكفي
ويشفي. ولله الحمد أولا وآخرا