خطبة عن (الرحمة في الإسلام) للشيخ صالح بن حميد حفظه الله تعالى
(الخطبة الأولى)
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا. مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله،وراقبوه في أحوالكم تفلحوا
عباد الله: الناس في حاجة إلى كَنَف رحيم، ورعاية حانية، وبشاشة سمحة، هم بحاجة إلى وُدٍّ يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم، ولا ينفر من ضعفهم، في حاجة إلى قلب كبير، يمنحهم ويعطيهم، ولا يتطلع إلى ما في أيديهم، يحمل همومهم، ولا يثقلهم بهمومه.
إن الإنسان لا يتميّز في إنسانيته إلا بقلبه وروحه، فبالروح والقلب يعش ويشعر، وينفعل ويتأثر، ويرحم ويتألم.
الرحمة –عباد الله- كمال في الطبيعة البشرية، تجعل المرء يرقّ لآلام الخلق، فيسعى لإزالتها، كما يسعى في مواساتهم، كما يأس لأخطائهم، فيتمنّى هدايتهم، ويتلمّس أعذارهم.
وفي الحديث الصحيح: ((جعل الله الرحمة مائة جزء، أنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه))
وربنا سبحانه متصفٌ بالرحمة صفةً لا تشبه صفات المخلوقين، فهو أرحم الراحمين، وخير الراحمين، وسعت رحمته كل شيء، وعمّ بها كل حي، وملائكة الرحمة -وهي تدعو للمؤمنين- أثنت على ربها، وتقربت إليه بهذه الصفة العظيمة،(( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ [غافر:7]، وفي الحديث القدسي: ((إن رحمتي تغلب غضبي))
أيها المسلمون، ورحمة الله سببٌ واصل بين الله وبين عباده، بها أرسل رسله إليهم، وأنزل كتبه عليهم، وبها هداهم، وبها يسكنهم دار ثوابه، وبها يرزقهم ويعافيهم وينعم عليهم،
فبينهم وبينه سبب العبودية، وبينه وبينهم سبب الرحمة، يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِى ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ.
الرحمة تحصل للمؤمنين المهتدين بحسب هُداهم، فكلما كان نصيب العبد من الهدى أتمّ كان حظه من الرحمة أوفر، فبرحمته سبحانه شرع لهم شرائع الأوامر والنواهي، بل برحمته جعل في الدنيا ما جعل من الأكدار حتى لا يركنوا إليها فيرغبوا عن نعيم الآخرة،
وأرسل نبيه محمداً بالرحمة، فهو نبي الرحمة للعالمين أجمعين، (وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ) ، بعثه ربه فجعله أزكى عباد الرحمن رحمة، وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدراً، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)
والإسلام رسالة خير وسلام ورحمة للبشرية كلها، دعا إلى التراحم، وجعل الرحمة من دلائل كمال الإيمان، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لن تؤمنوا حتى تراحموا))
فليس المطلوب قصر الرحمة على من تعرف من قريب أو صديق، ولكنها رحمة عامة يقول عليه الصلاة والسلام : ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس)) ، وفي الحديث الآخر: ((من لا يرحم لا يُرحم))،
عباد الله، ورحم الله تُستجلب بطاعته وطاعة رسوله محمد ، والاستقامة على أمر الإسلام، (وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (، كما تُستجلب بتقوى الله، (وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
ومن جالبات رحمة الله إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ((وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ))
ومن أعظم ما تُستجلب به رحمة الله -عباد الله- الرحمة بعباده، ففي الحديث الصحيح: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))
ومن أجل هذا -رحمكم الله- فإن المؤمن قويَّ الإيمان يتميّز بقلب حيّ مرهف لين رحيم، يرقّ للضعيف، ويألم للحزين، ويحنّ على المسكين، ويمدّ يده إلى الملهوف، وينفر من الإيذاء، ويكره الجريمة، فهو مصدر خير وبر وسلام لما حوله ومن حوله.
عباد الله ، وإذا كان الأمر كذلك فإن من أولى الناس وأحقهم بالرحمة وأمنِّهم بها الوالدين، فببرهما تُستجلب الرحمة، وبالإحسان إليهما تكون السعادة،( وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا)
ثم من بعد ذلك الأولاد فلذات الأكباد، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، و يقول)): اللهم ارحمهما، فإني ارحمهما))
ويرتبط بالوالدين والأولاد حق ذوي الأرحام، فالرحم مشتقة من الرحمة في مبناها، فحرِي أن تستقيم معها في معناها، )الرحم شجنة من الرحمة، من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله)
أما الصغار والأطفال فإنهم محتاجون إلى عناية خاصة وفي الحديث: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا).
عباد الله ، وتعاليم الإسلام وآداب الدين في هذا الباب تتجاوز الإنسان الناطق إلى الحيوان الأعجم، فجنات عدن تفتح أبوابها لامرأة بغيّ سقت كلباً فغفر الله لها، ونار جهنم فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض،فإذا كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب.
وبعد هذا عباد الله فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو قسوة قلبه فقال له (أتحبّ أن يلين قلبك؟! أرحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلنْ قلبك)
.بارك الله لي ولكم بالقران العظيم ونفعنا بما فيه من الايات والذكر الحكيم اقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم
(الخطبة الثانية)
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لاإله إلا هو، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد
فيا عباد الله، الرحمة ليست حنانا لا عقل معه، وليست شفقة تتنكر للعدل والنظام، كلا، بل إنها خُلُق يرعى الحقوق كلَّها، قد تأخذ الرحمة صورةَ الحزم حين يؤخذ الصغير إلى المدرسة الزاما من أجل التربية وطلب العلم، والطبيب يمزّق اللحم ويهشم العظم ويبتر العضو، وما فعل ذلك إلا رحمة بالمريض وطلبا لشفائة،
ناهيكم بإقامة الحدود، والأخذ على أيدي السفهاء، وأطرهم على الحق أطراً، فهي الرحمة في مآلاتها، والحياة في كمالاتها،( وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يأُولِي ٱلالْبَـٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
إن القسوة التي يستنكرها الإسلام انما هي جفاف في النفس، لا ترتبط بتحقيق عدل، ولا بمسلك إنصاف، ولكنها شدةٌ وانحراف في دائرة مجردة وهوى مضل.
أيها المسلمون، وقد يستوقف المتأمل معنى الشدة على الكافرين في مقابل الرحمة بالمؤمنين في قول الله عز وجل (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) [الفتح:29]،
والحق أن الإسلام قد جاء بالرحمة العامة، لا يُستثنى منها إنسان ولا دابة ولا طير، بيد أن هناك من الناس والدواب من يكون مصدر خطر ومثار رُهب فيكون من رعاية مصلحة الجماعة كلها أن يُحبس شره ويُكف ضرره، بل إن الشدة معه رحمةً به وبغيره.
فالإسلام رسالة خير وسلام ورحمة للبشرية كلها، ((وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِـئَايَـٰتِنَا يُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلامّىَّ))
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر و تواصوا بالمرحمة.
هذا وصلوا وسلموا عباد الله على الرسول الأمين وعلى صحابته الميامين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، واحمِ حَوزَة الدّين، ودمِّر أعداءَ الدّين، وسائرَ الطُّغاة والمُفسدين، اللهم وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادَتهم، واجمَع كلِمَتهم على الحقّ يا رب العالمين.
اللّهمّ انصر دينك وكتابك وسنة نبيِّك محمّد صلى الله عليه وسلم وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين... اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْـهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِليْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُـوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا يَا رَبَّنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، وَعَافِنَا وَاعْفُ عَنَّا، اللَّهُمَّ أَعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنَّا، وَزِدْنَا وَلاَ تَنْقُصْنَا، وَآثِرْنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَيْنَا.
اللَّهُمَّ اغْفِـرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْـلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ الأَحْيَاءِ مِنْهُـمْ وَالأَمْوَاتِ.
اللَّهُمَّ وَوَفِّقِ وُلاَةَ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
(رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار)ِ
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.